لا يحول بينهم وبين ربهم شئ مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان، فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا، فيفيض عليهم ربهم علم اليقين، ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذه الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه وبينهم، كما يشير إليه قوله تعالى: * (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون) * (1)، وقوله تعالى: * (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) * (2)، وقد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) * (3) في الجزء السادس من الكتاب.
وبالجملة: هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لأمره، إذ لا يرون إلا خيرا ولا يشاهدون إلا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد، فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله، قال تعالى: * (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين) * (4).
4 - وأما إخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا إليه تعالى، فإن العبد لا يملك من نفسه شيئا إلا بالله، والله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه، فإخلاصه دينه - وإن شئت فقل: إخلاصه نفسه لله - هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه.
نعم ههنا شئ وهو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة، فنشأوا من بادئ الأمر بأذهان وقادة وإدراكات صحيحة ونفوس طاهرة وقلوب سليمة، فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل أعلى وأرقى، لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات، والظاهر أن هؤلاء هم المخلصون - بالفتح - لله في عرف القرآن.
وهؤلاء هم الأنبياء والأئمة، وقد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته، قال تعالى: * (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) * (5)، وقال: * (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (6). وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي، وتمتنع معه صدور شئ منها عنهم صغيرة أو كبيرة، وبهذا يمتاز العصمة من العدالة، فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.