مرضاته وإرادته على مرضاته وإرادته، فهم يعبدون الله ولا يريدون في شئ من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه، ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم، ولا إلى ثواب يرجيهم، وإن خافوا عذابه ورجوا رحمته، وإلى هذا يشير قوله (عليه السلام): " ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ".
وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضاة ربهم ومحضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية، وذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه، وقد سمى نفسه بأحسن الأسماء ووصف ذاته بكل صفة جميلة، ومن خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق! وقال تعالى: * (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه) * (1) ثم قال: * (الذي أحسن كل شئ خلقه) * (2) فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن وأنهما متلازمان متصادقان، ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شئ آية تدل عليه وأن في السماوات والأرض لآيات لأولي الألباب، فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ولا يحكي شيئا من جماله وجلاله.
فالأشياء من جهة أنواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى ويحمده ويثنى على حسنه الذي لا يفنى، ومن جهة ما فيها من أنواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء، كما قال تعالى:
* (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) * (3).
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم، وهو أنها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله، وليس لها من النفسية والأصالة والاستقلال إلا أنها كمرائي تجلي بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي، وبفقرها وحاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء، ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة ويغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه وكل شئ، ويمحو رسم الأهواء والأميال النفسانية عن باطنه، ويبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه، قال تعالى: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * (4).
ولذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا وطريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك، فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه، كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة، ولو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته، وقد تقدمت الرواية عن الصادق (عليه السلام): " هل الدين إلا الحب " وقوله (عليه السلام) في حديث: " وإني أعبده حبا له وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون... " الحديث،