وقد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم، والله سبحانه يصدق ذلك بقوله: * (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) * (1)، وأن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: * (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) * (2).
ومن الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): * (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (3) وقد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.
وقوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): * (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإن لا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * (4) وقد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.
ويظهر من ذلك أولا: أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي وهو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما، بخلاف سائر العلوم فإن الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (5)، وقال: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) * (6)، وقال: * (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * (7).
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: * (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) * (8)، وذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى وصفاته من طريق السمع، وقد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا، والآية مع ذلك تنزهه تعالى عما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون، فليس إلا أن العلم غير العلم وإن كان متعلق العلمين واحدا من وجه.
وثانيا: أن هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ولا يخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار، كيف؟ والعلم من مبادئ الاختيار، ومجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة، كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا، وإنما يضطر الفاعل ويجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل والترك من الإمكان إلى الامتناع.
ويشهد على ذلك قوله: * (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا حبط