الوطن وبذل المال والوقت في ترفيع مباني الدولة ونحو ذلك - فليس ممن يبتغيه ويذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان - على هذا - بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شئ من النفع بثناء أو حسن ذكر، وأي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة، أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه وليس عنده بعد الموت إلا البطلان والاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه والتفات.
فقد تبين أن شيئا من هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، ولا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية ونقض السنن والقوانين، وخاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس، وخاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها وبغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، وقد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته وبين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء، فلم يمنعه (عليه السلام) - ولا كان من الحري أن يمنعه - شئ إلا العلم بمقام ربه.
2 - يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة:
وإن شئت فقل: إنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف والرجاء والحب، قال تعالى: * (في الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) * (1)، فعلى المؤمن أن يتنبه لحقيقة الدنيا وهي أنها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فعليه أن لا يجعلها غاية لأعماله في الحياة، وأن يعلم أن له وراءها دارا وهي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، وهي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه ويخاف الله فيه، ومغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها ويرجو الله فيها، ورضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه.
وطباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها، فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف، وكلما فكر فيما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا ولفرائصه ارتعادا ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.
وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء، وكلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاء وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة والجنة.
وطائفة ثالثة وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه، وإنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة، وذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم وإرادتهم ورضاهم وكل شئ غيرهم، ويدبر الأمر وحده، وليسوا إلا عباد الله فحسب، وليس للعبد إلا أن يعبد ربه ويقدم