الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على الناس، وهو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.
فالقوانين والسنن وإن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، وأحكام الجزاء وإن كانت بالغة في شدتها، لا تجري على رسلها في المجتمع ولا تسد باب الخلاف وطريق التخلف إلا بأخلاق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم والفساد كملكة اتباع الحق واحترام الإنسانية والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها.
ولا يغرنك ما تشاهده من القوة والشوكة في الأمم الراقية والانتظام والعدل الظاهر فيما بينهم ولم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لإجرائها فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة وخيرها ولا يدفع إلا ما يضر أمته، ولا هم لامته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة واستدرارهم، واستعمار بلادهم، واستباحة نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، فلم يورثهم هذا التقدم والرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات، فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس، وهجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية والشرافة والفضيلة ولا يراد بها إلا الرقية والخسة والظلم والرذيلة.
وبالجملة: السنن والقوانين لا تأمن التخلف والضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية واستظهرت بها.
ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع ولا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد وهو الإيمان بأن للعالم - ومنه الإنسان - إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شئ، ولا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه ويعاقب المسئ بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.
ومن المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، وكان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم، ولولا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة - عقيدة التوحيد - لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية، وأقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي وللاجتماع من الفساد، وأن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، ويثني عليه الناس ويمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.
أما ثناء الناس وتقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها، أما الجزئيات وما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها، وأما الذكر الجاري والاسم السامي - ويؤثر غالبا فيما فيه تفدية وتضحية من الأمور كالقتل في سبيل