الدنيا التي لا يقول بما وراءها.
فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى، ولا مؤثر غيره ويرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم وليست إلا سرابا لا حقيقة له، ولا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا، وعاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، وعند ذلك يوفيهم الله حسابهم والله سريع الحساب.
قوله تعالى: * (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) * تشبيه ثان لأعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، وقد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * (1) وقوله: * (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) * (2) وقوله: * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) * (3).
وقوله: * (أو كظلمات في بحر لجي) * معطوف على " سراب " في الآية السابقة، والبحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر وهي تردد أمواجه، والمعنى أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.
وقوله: * (يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) * صفة البحر جئ بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه، فصفته أنه يغشاه ويحيط به موج كائن من فوقه موج آخر كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس والقمر والنجوم.
وقوله: * (ظلمات بعضها فوق بعض) * تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، وقد أكد ذلك بقوله: * (إذا أخرج يده لم يكد يراها) * فإن أقرب ما يشاهده الإنسان منه هو نفسه، وهو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه، لأنه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد، فإذا أخرج يده ولم يكد يراها كانت الظلمة بالغة.
فهؤلاء وهم سائرون إلى الله وصائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون ولا نور هناك يستضئ به فيهتدي إلى ساحل النجاة " (4).
قوله تعالى: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) * الأعناق جمع عنق بضمتين وهو الجيد، والأغلال جمع غل بالكسر وهي على ما قيل ما تشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، ومقمحون اسم مفعول من الإقماح وهو رفع الرأس، كأنهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رؤوسهم مرفوعة إلى السماء لا يتأتى لهم أن ينكسوها