بالصوت ونحوه بخلاف الدعاء.
والمعنى - والله أعلم - ومثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء ونداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا، فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، وعمي لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا، لأن الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم.
ومن ذلك يظهر أن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه، فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى، إلا أن الأوصاف الثلاثة التي استنتج واستخرج من المثل وذكرت بعده - وهي قوله: * (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) * - لما كانت أوصافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى، فأنتج ما أشبه القلب (1).
" قوله تعالى: * (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف...) * إلى آخر الآية، يوم عاصف شديد الريح، تمثيل لأعمال الكفار من حيث تترتب نتائجها عليها، وبيان أنها حبط باطلة لا أثر لها من جهة السعادة، فهو كقوله تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * (2)، فأعمالهم كذرات من الرماد اشتدت به الريح في يوم شديد الريح فنثرته ولم يبق منه شيئا، هذا مثلهم من جهة أعمالهم.
ومن هنا يظهر أن لا حاجة إلى تقدير شئ في الكلام وإرجاعه إلى مثل قولنا: مثل أعمال الذين كفروا... إلخ، والظاهر أن الآية ليست من تمام كلام موسى، بل هي كالنتيجة المحصلة من كلامه المنقول (3).
قوله تعالى: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء...) * إلى آخر الآية، السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء ولا حقيقة له، والقيع والقاع هو المستوي من الأرض، ومفرداهما القيعة والقاعة كالتينة والتمرة، والظمآن هو العطشان.
لما ذكر سبحانه المؤمنين ووصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة ولا بيع، وأن الله الذي هو نور السماوات والأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته، قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، وتارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها وهي حاجزة عن النور، وهذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.
فقوله: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) * شبه أعمالهم - وهي التي يأتون بها من قرابين وأذكار وغيرهما من عباداتهم يتقربون بها إلى