آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الإنسان ماء ولا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش وغير ذلك.
وإنما قيل: * (يحسبه الظمآن ماء) * مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء، لأن المطلوب بيان سيره إليه ولا يسير إليه إلا الظمآن يدفعه إليه ما به من ظمأ، ولذلك رتب عليه قوله: * (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) * كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظمآن ماء فيسير إليه ويقبل نحوه ليرتوي ويرفع عطشه به، ولا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
والتعبير بقوله: * (جاءه) * دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه ونحوها، للإيماء إلى أن هناك من يريد مجيئه وينتظره انتظارا وهو الله سبحانه، ولذلك أردفه بقوله: * (ووجد الله عنده فوفاه حسابه) * فأفاد أن هؤلاء، يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحوه فطرتهم وجبلتهم وهو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته وجبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، ولا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنا منهم لهم حقيقة، بل الذي ينتهي إليه أعمالهم ويحيط هو بها ويجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، وتوفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الأعمال وإيصال ما يستحقه صاحب الأعمال.
ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، وتشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء وعنده عذب الماء لكنه يعرض عنه ولا يصغي إلى مولاه الذي ينصحه ويدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه ويقبل نحوه، وتشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال وعند ذلك تمام الأعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه وعنده مولاه الذي كان ينصحه ويدعوه إلى شرب الماء.
فهؤلاء قوم الهوا عن ذكر ربهم والأعمال الصالحة الهادية إلى نوره وفيه سعادتهم وحسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم، والأعمال المقربة إليهم وفيها سعادتهم فأكبوا على تلك الأعمال السرابية واستوفوا بما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم وشارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم ولا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم والله سريع الحساب.
وقوله: * (والله سريع الحساب) * إنما هو لإحاطة علمه بالقليل والكثير والحقير والخطير والدقيق والجليل والمتقدم والمتأخر على حد سواء.
واعلم أن الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل وخاصة المشركين من الوثنيين، لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع، فإن الإنسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة، ولا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها، فإن كان ممن يقول بالصانع ويراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه والفوز بالسعادة التي يقدرها له، وإن كان ممن ينكره وينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر والطبيعة والمادة نحو سعادة حياته