من الخير سرا وجهرا.
وفيه: أنه لا يلائم سياق الاحتجاج الذي للآيات، وقد تقدم أن الآية إحدى الآيات الثلاث المتوالية التي تتعرض لغرض تعداد النعم الإلهية، وهي تذكر بالتوحيد بمثل يقيس حال من ينعم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئا ولا يقدر على شئ، فيستنتج أن الرب هو المنعم لاغير.
قوله تعالى: * (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم...) * إلى آخر الآية. قال في المجمع: الأبكم الذي يولد أخرس لا يفهم ولا يفهم، وقيل: الأبكم الذي لا يقدر أن يتكلم، والكل الثقل، يقال: كل عن الأمر يكل كلا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، وكلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها، وكل لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده، فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ، والتوجيه: الإرسال في وجه من الطريق، يقال: وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه. انتهى.
فقوله: * (وضرب الله مثلا رجلين) * مقايسة أخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في أوصافهما المذكورة.
وقوله: * (أحدهما أبكم لا يقدر على شئ) * أي محروم من أن يفهم الكلام ويفهم غيره بالكلام لكونه أبكم لا يسمع ولا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليات والمزايا التي يكتسبها الإنسان من طريق السمع الذي هو أوسع الحواس نطاقا، به يتمكن الإنسان من العلم بأخبار من مضى وما غاب عن البصر من الحوادث وما في ضمائر الناس ويعلم العلوم والصناعات، وبه يتمكن من إلقاء ما يدركه من المعاني الجليلة والدقيقة إلى غيره، ولا يقوى الأبكم على درك شئ منها إلا النزر اليسير مما يساعد عليه البصر بإعانة من الإشارة.
فقوله: * (لا يقدر على شئ) * مخصص عمومه بالأبكم، أي لا يقدر على شئ مما يقدر عليه غير الأبكم، وهو جملة ما يحرمه الأبكم من تلقي المعلومات وإلقائها.
وقوله: * (وهو كل على مولاه) * أي ثقل وعيال على من يلي ويدبر أمره، فهو لا يستطيع أن يدبر أمر نفسه، وقوله: * (أينما يوجهه لا يأت بخير) * أي إلى أي جهة أرسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع أن ينفع غيره كما لا ينفع نفسه، فهذا - أعني قوله:
* (أحدهما أبكم لا يقدر على شئ...) * إلخ - مثل أحد الرجلين، ولم يذكر سبحانه مثل الآخر لحصول العلم به من قوله: * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل...) * إلخ، وفيه إيجاز لطيف.
وقوله: * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) * فيه إشارة إلى وصف الرجل المفروض، وسؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه.
أما الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن أن يتلبس به غير الأبكم من الخير والكمال الذي يحلي نفسه ويعدو إلى غيره وهو العدل الذي هو التزام الحد الوسط في الأعمال واجتناب الإفراط والتفريط، فإن الأمر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه أن يتمكن الصلاح من نفس الإنسان،