ثم ينبسط على أعماله فيلتزم الاعتدال في الأمور، ثم يحب انبساطه على أعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل، وهو - كما عرفت - مطلق التجنب عن الإفراط والتفريط أي العمل الصالح أعم من العدل في الرعية.
ثم وصفه بقوله: * (وهو على صراط مستقيم) * وهو السبيل الواضح الذي يهدي سالكيه إلى غايتهم من غير عوج، والإنسان الذي هو في مسير حياته على صراط مستقيم يجري في أعماله على الفطرة الإنسانية من غير أن يناقض بعض أعماله بعضا أو يتخلف عن شئ مما يراه حقا، وبالجملة: لا تخلف ولا اختلاف في أعماله.
وتوصيف هذا الرجل المفروض الذي يأمر بالعدل بكونه على صراط مستقيم يفيد أولا: أن أمره بالعدل ليس من أمر الناس بالبر ونسيان نفسه، بل هو مستقيم في أحواله وأعماله يأتي بالعدل كما يأمر به. وثانيا: أن أمره بالعدل ليس ببدع منه من غير أصل فيه يبتني عليه، بل هو في نفسه على مستقيم الصراط، ولازمه أن يحب لغيره ذلك فيأمرهم أن يلتزموا وسط الطريق ويجتنبوا حاشيتي الإفراط والتفريط.
وأما السؤال - أعني ما في قوله: * (هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل...) * إلخ - فهو سؤال لا جواب له إلا النفي لاشك فيه، وبه يثبت أن ما يعبدونه من دون الله من الأصنام والأوثان - وهو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدي من نفسه ولا أن يهدي غيره - لا يساوي الله تعالى وهو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بإرسال الرسل وتشريع الشرائع.
ومنه يظهر أن هذا المثل المضروب في الآية في معنى قوله تعالى: * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) * (1) فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته وأفعاله، ومن استقامة صراطه أن يجعل لما خلقه من الأشياء غايات تتوجه إليها فلا يكون الخلق باطلا، كما قال: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلا) * وأن يهدي كلا إلى غايته التي تخصه كما خلقها وجعل لها غاية، كما قال: * (الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) * (2)، فيهدي الإنسان إلى سبيل قاصد كما قال: * (وعلى الله قصد السبيل) * (3)، وقال: * (إنا هديناه السبيل) * (4).
وهذا أصل الحجة على النبوة والتشريع، وقد مر تمامه في أبحاث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.
فقد تحصل: أن الغرض من المثل المضروب في الآية إقامة حجة على التوحيد مع إشارة إلى النبوة والتشريع.
وقيل: إنه مثل مضروب فيمن يؤمل منه الخير ومن لا يؤمل منه، وأصل الخير كله من الله تعالى فكيف يستوي بينه وبين شئ سواه في العبادة؟!
وفيه: أن المورد أخص من ذلك، فهو مثل