يوم ينفع الصادقين صدقهم) * (1).
وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها، ويتضمن من بارع الأدب على مجامعه، يفصح عما كان يراه عيسى المسيح (عليه السلام) من موقفه نفسه تلقاء ربوبية ربه، وتجاه الناس وأعمالهم، فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربه عبدا لا شأن له إلا الامتثال، لا يرد إلا عن أمر، ولا يصدر إلا عن أمر، ولم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده، ولم يقل لهم إلا ما امر به: أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ولم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب، وأما ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك، غفر أو عذب.
فإن قلت: فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة: أن عيسى (عليه السلام) من الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع؟
قلت: القرآن صريح أو كالصريح في ذلك، قال تعالى: * (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) * (2)، وقد قال تعالى فيه: * (ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا) * (3)، وقال تعالى: * (وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) * (4)، وقد تقدم إشباع الكلام في معنى الشفاعة، وهذا غير التفدية التي يقول بها النصارى، وهي إبطال الجزاء بالفدية والعوض، فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجئ من بيانه، والآية إنما تنفي ذلك، وأما الشفاعة فالآية غير متعرضة لأمرها لا إثباتا ولا نفيا، فإنها لو كانت بصدد إثباتها - على منافاته للمقام (5) - لكان حق الكلام أن يقال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، ولو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر الشهادة على الناس وجه، وهذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إن شاء الله تعالى.
وأما ما قاله الناس في عيسى (عليه السلام)، فإنهم وإن تشتتوا في مذاهبهم بعده واختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه، وجزئيات المذاهب والآراء كثيرة جدا، لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه وأمه لمساسه بأساس التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم والدين الفطري القويم، وأما بعض الجزئيات - كمسألة التحريف، ومسألة التفدية - فلم يهتم به ذاك الاهتمام.
والذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبه إليهم ما في قوله تعالى: * (وقالت النصارى المسيح ابن الله) * (6) وما في معناه كقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه) * (7)، وما في قوله تعالى: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح