فاصبر مع القوم نفسا ليس تشكرها * إلا إذا رزقت مثل الذي رزقوا من انكسار ومن ذل ومتربة * فيها روائح مسك نشره عبق فلا يغرنك أوصافي فإن لها * مواطنا وبها لأقوام قد نطقوا اعلم أيدنا الله وإياك بما أيدهم به من الروح القدسي أن لله عبادا كانت أحوالهم وأفعالهم ذكرا يتقرب به إلى الله وينتج من العلم بالله ما لا يعلمه إلا من ذاقه فمن حبس نفسه مع هذا الذكر لحق بهم فإنه كل ما أمر الله به نبيه ص ونهاه عنه هو كان عين أحوالهم وأفعالهم مع كون هذه الطائفة الذي نزل فيهم هذا القرآن من أصحاب رسول الله ص فما نالوا ما نالوه إلا باتباعه وفهم ما فهموا عنه ومع هذا عاتب الله تعالى نبيه ص فيهم حتى كان رسول الله ص إذا لقي أحدا منهم أو قعد في مجلس يكونون فيه لا يزال يحبس نفسه معهم ما داموا جلوسا حتى يكونوا هم الذين ينصرفون وحينئذ ينصرف رسول الله ص وكان ص إذا حضروا لا تعدو عيناه عنهم ويقول إذا جاءوا إليه أو لقيهم مرحبا بمن عاتبني الله فيهم ولما عرفوا بذلك كانوا يخففون الجلوس مع رسول الله ص والحديث لما علموا من تقييده بهم وصبره نفسه معهم فمن لزم هذا الذكر فإنه ينتج له معرفة وجه الحق في كل شئ فلا يرى شيئا إلا ويرى وجه الحق فيه فإنهم ما دعوا ربهم بالغداة والعشي الذي هو زمان تحصيل الرزق في المرزوقين كما قال لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا وهو الصبوح والغبوق عند العرب فكان رزق هؤلاء بالغداة والعشي ما يحصل لهم من معرفة الوجه الذي كان مرادهم لأنه قال يريدون وجهه يعني بذلك الدعاء بالغداة والعشي وجه الحق لما علموا أن كل شئ هالك إلا وجهه فطلبوا ما يبقى وآثروه على ما يفنى فإذا تجلى لهم وجه الحق في الأشياء ولهذا الذاكر بهذا الذكر لم تعد عيناه عن هذا الوجه ولا يتمكن أن تعدو عيناه عنه لأنه بذاته يقيد كل ناظر إليه وإنما جاء بالنهي في هذا الذكر لأنهم ليسوا عين الوجه بل هم المشاهدون للوجه فمن كان منهم قد حصل له تجلى الوجه وبقي معه هذا الذكر فإنما يريد بقاء شهود ذلك الوجه دائما لما يعرف من حال الممكن وما ينبغي لجلال الله من الأدب معه حيث لا يحكم عليه بشئ ولا بد وإن حكم هو بذلك على نفسه هذا هو الأدب الإلهي ومن لم يبدله بعد ذلك الوجه المطلوب فيطلب بدعائه ذلك الوجه المراد له وعلى كل حال فلا تعد عينا رسول الله ص عنهم إلى غيرهم ما داموا حاضرين ومن هنا قال رسول الله ص في صفة أولياء الله هم الذين إذا رأوا ذكر الله لما حصل لهم من نور هذا الوجه الذي هو مراد لهؤلاء فإن الذي يتجلى له هذا الوجه لا بد أن يكون فيه أثر معلوم له ولا بد فمنه جلي بحيث أن يراه الغير منه ومنه خفي بحيث أن لا يراه منه إلا أهل الكشف أو لا يراه أحد وهو الأخفى إلا أنه له في نفسه جلى لأنه صاحب الشهود وحكم غير الأنبياء في مثل هذه الأمور خلاف حكم الأنبياء فإن الأنبياء وإن شاهدوا هؤلاء في حال شهودهم للوجه الذي أرادوه من الله تعالى بدعائهم وإنهم من حيث إنهم أرسلوا لمصالح العباد لا يتقيدون بهم على الإطلاق وإنما يتقيدون بالمصالح التي بعثوا بسببها فوقتا يعتبون مع كونهم في مصلحة مثل هذه الآية ومثل آية الأعمى الذي نزل فيه عبس وتولى فإن رسول الله ص ما أعرض عن الأعمى الذي عتبة فيه الحق إلا حرصا وطمعا في إسلام من يسلم لإسلامه خلق كثير ومن يؤيد الله به الدين ومع هذا وقع عليه العتب من حقيقة أخرى لا من هذه الجهة فمن ذلك قوله أما من استغنى فأنت له تصدى فذكر الصفة ولم يذكر الشخص والغناء صفة إلهية فما حادت عين رسول الله ص إلا إلى صفة إلهية لتحققه ص بالفقر فأراد الحق أن ينبهه على الإحاطة الإلهية فلا تقيده صفة عن صفة فليس شهوده ص لغنى الحق في قوله والله غني عن العالمين بأولى من شهوده ص لطلب الحق في قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وأين مقام الغناء من هذا الطلب وقوله وأقرضوا الله قرضا حسنا فغار عليه سبحانه أن تقيده صفة عن صفة بل كان يظهر لأولئك من البشاشة على قدر ما يليق بهم ويظهر للأعمى من الفرح به على قدر ما تقع به المصلحة في حق أولئك الجبابرة فإن التواضع والبشاشة محبوبة بالذات من كل أحد فإنها من مكارم الأخلاق وما زال الله يؤدب نبيه ص
(١٧٠)