عليه الآيتان السابقتان.
فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى كمالها المشرع لها، وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر، فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية، فلابد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة جيدة أو ردية، فلابد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي (الشريعة) وسلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده، وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما.
توضيح ذلك: أن من لم يتبع الدعوة الإلهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقي على تلك الحال، فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر والنواهي الإلهية ويخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء وإن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده، فليس ذلك إلا مكرا إلهيا، فإنه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم ويخيب سعيهم فيما يظنونه فوزا لأنفسهم، قال تعالى:
* (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) * (1) وقال:
* (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) * (2) وقال:
* (ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) * (3) وقال: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * واملي لهم إن كيدي متين) * (4) فما يتبجح به المغرور الجاهل بأمر الله أنه سبق ربه فيما أراده منه بالمخالفة والتمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده، قال تعالى: * (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) * (5) ومن أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى:
* (فلله المكر جميعا) * (6).
فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات - التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية، وكل ما يستقبلهم من حوادث الأيام، ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم، ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم - مكر إلهي وإملاء واستدراج، فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل، والله غالب على أمره.
وهذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم، والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحيا وإضلالا، والحوادث الداعية وما يجري مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجئ بيانه في سورة