غشاه الله به فنضجه سبب في عذاب النفس المكلفة والجلد متنعم في ذلك العذاب المحسوس قال بعض المحبين فهل سمعتم بصب * سليم طرف سقيم * منعم بعذاب * معذب بنعيم هذا الهجير هو هجير الخائفين من مكر الله يزجرون به نفوسهم الأمارة بالسوء عسى تنزجر ويأبى الخرق إلا اتساعا وسبب ذلك ما ذكر الله عن نفسه من اختيار مشيئته بين المغفرة والعذاب فهو غير قاطع بأحد الأمرين ثم إنه يرى الأسماء الإلهية تتقابل في حقه ثم يرى أسماء الفضل تترجح عددا وقوة على أسماء العدل والانتقام ويرى أن التقابل بين هذه الأسماء إنما يقع بميدان الرحمة التي وسعت كل شئ فجرأهم ذلك على ما ارتكبوه من المخالفات وتعدوه من الحدود وانتهكوه من المحارم فلو قطعوا بالمؤاخذة على ما صدر منهم إن ماتوا عن غير توبة كما ذهبت إليه طائفة ما فعلوا ما لا يرضى سيدهم ثم رأوا أنهم في عذاب الحياة الدنيا لا يصبرون تحت حكمه وينفرون منه طبعا ولا يقبلونه إلا جبرا فيجعله الخائف لنفسه موعظة وذكرى فإن كان قوي الايمان غير متبحر في التأويل خائضا في بحر الظاهر لا يصرفه للمعاني الباطنة صارف انتفع بالذكرى وإن لم تقم به هذه النعوت وأمثالها وتأول تردى وأردى من اتبعه وكان من الذين اتبعوا أهواءهم وكان أمر من هذه صفته فرطا فينتج له هذا الذكر من الأحوال العصمة ومن الأسماء الإلهية الاسم الظاهر والأول ومن المعارف معرفة الشهود وقبول الحق صور التجلي الظاهرة ويتحقق بالتقوى كل التحقق فيعلم العلم المجهول الذي لا يصل إليه كل أحد وهو العلم بسرائر المحسوسات والحواس والإحساس والمحس وإنما جهله الأكثرون لما نقوله وذلك أن النفوس مجبولة على حب إدراك المغيبات واستخراج الكنوز وحل الرموز وفتح المغاليق والبحث عن خفيات الأمور ودقائق الحكم ولا ترفع بالظاهر رأسا فإن ذلك عندها في زعمها أبين من فلق الصبح فالنهار عندها لا يخفى على أحد فصاحب هذا الهجير يبدو له من العلم في هذه الظواهر ما لا يخطر بخاطر أحد أن ذلك الذي أدركه صاحب الكشف لهذا العلم يحمله ظاهر ذلك الأمر ولا صورته فإذا نبه عليه صاحب هذا العلم والكشف عند ذلك يعظم قدره وتظهر حكمته وكثرة خيره ويعلم عند ذلك أنه ما كان يحسبه هينا هو عند الله عظيم وهذا كله من الاسم الإلهي الظاهر الذي له التقدم في الأمور والخير كله إنما هو في الأوائل إلا ترى أن الخاطر الأول هو الإلهي الصادق الذي لا يخطئ أبدا فله العصمة والمضا وفيه يظهر القدر والقضاء وكذلك النظرة الأولى والمسموع الأول والحركة الأولى وهو الذي يعطي علوم الزجر للزاجر وهي لا تخطى أبدا بل الصحة تصحبها فالأوائل هي الظواهر السوابق وكل ما جاء بعد الخاطر الأول فهو حديث نفس يجئ على أثره فللخاطر الأول التمهيد والتوطئة وهي الظواهر تعطي العقول التشوق إلى ما وراءها فالفطن المصيب النحرير لا يزول عن الأمر الظاهر الأول الذي ورد عليه حتى يستوفي جميع حقائقه وما تعطيه صورته ويقف على خفيات غيوبه فإذا حصله وقبله علما حينئذ ينتقل إلى ما يرد عليه في أثره الذي هو باطن فإن جهل الظاهر كان بالباطن أجهل فإنه الدليل عليه وإن فرط في تحصيل الأول كان في تحصيل الآخر أشد تفريطا لأن من الحرص على تحصيل العلم بالخاطر الآخر تحصيل الأول فأول الأمر خوف والرجاء يتلوه فإن تقدمه الرجاء فقد فاته الخوف فإن الماضي لا يسترجع فالتقدم للخوف وقد فاته وذهب عنه ومن له برده والرجاء في المحل قد منعه سلطانه فالمؤمن من تساوى خوفه ورجاؤه بحيث إنه لا يفضل واحد صاحبه عنده لأنه استعمل كل شئ في محله وأول نش ء الإنسان ضعف ولضعفه يتقدمه الخوف على نفسه ثم تكون له القوة بعد هذا الضعف فيأتيه الرجاء بقوته فإنه يتقوى نظره في العلوم والتأويلات فيعظم رجاؤه في جناب الحق ولكن العاقل لا يتعدى به موطنه فإذا خطر له من قوة الرجاء ما يوجب استعمال الخوف عند العاقل العارف عزل الرجاء عن الانفراد بالحكم وأشرك معه الخوف فذلك المؤمن فلا يزال كذلك إلى أن تكمل ذاته الكمال الذي ينتهي إليه أولياء الله في الورث النبوي في هذا الزمان المحمدي الذي أغلق فيه باب نبوة التشريع ورسالته وبقي باب حكم الاختصاص بالعلوم الإلهية والأسرار مفتوحا يدخل عليه أهل الله وأول داخل عليه أهل هذا الذكر جعلنا الله ممن استوى خوفه ورجاؤه في الحياة الدنيا إلى حين موته عند الاحتضار فيغلب رجاؤه على خوفه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
(١٥٢)