مما تقدم من سنة الروم واليونان.
وأما الفارس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم وتعدد الزوجات كما تقدم ويرون التبني، وكانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء وترث كما يرث الابن والدعي بالسوية، وكانت تحرم بقية الزوجات، والبنت المزوجة لا ترث حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت، والتي لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن، فكانت الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوجة محرومات، وكانت الزوجة الكبيرة والابن والدعي والبنت غير المزوجة بعد مرزوقين.
وأما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا والصغار من البنين ويمتعون أرشد الأولاد ممن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة، فإن لم يكن فالعصبة.
هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث، ذكرها وتعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها، من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها.
وقد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو أم أو بنت أو أخت إلا بعناوين أخرى مختلفة، وعلى حرمان الصغار والأيتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة غير المنقطعة.
4 - ماذا صنع الإسلام والظرف هذا الظرف؟
قد تقدم مرارا أن الإسلام يرى أن الأساس الحق للأحكام والقوانين الإنسانية هو الفطرة التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله، وقد بني الإرث على أساس الرحم التي هي من الفطرة والخلقة الثابتة، وقد ألغى إرث الأدعياء، حيث يقول تعالى: * (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) * (1).
ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث وأفردها عنوانا مستقلا يعطى به ويؤخذ، وإن كانوا يسمون التملك من جهة الإيصاء إرثا، وليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية، فإن لكل من الوصية والإرث ملاكا آخر وأصلا فطريا مستقلا، فملاك الإرث هو الرحم ولا نفوذ لإرادة المتوفى فيها أصلا، وملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته (وإن شئت قل: حينما يوصي) فيما يملكه في حياته واحترام مشيته، فلو أدخلت الوصية في الإرث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية.
وأما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة الإرث أحد الأمرين إما الرحم وإما احترام إرادة الميت، بل حقيقة الأمر أنهم كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة وهي إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذي كان فيه تحت يد رئيس البيت وربه، أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت ويشفق عليه، فكان الإرث على أي حال يبتني