وكلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر، فهو سبحانه القائل: * (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) * (1) وانضمام الآية إلى الآيات الدالة على عموم الدعوة - كقوله: * (لأنذركم به ومن بلغ) * (2) - يفيد أن تأثير البنى الإنسانية في الصفات والأعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر.
كيف؟! وهو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها ولا تغيير، قال: * (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) * (3)، وقال: * (ثم السبيل يسره) * (4) ولا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحق والسنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر والفساد والانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة.
وقول القائل: إن السعادة والشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الأربعة وفردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم، وأن الدعوة لإتمام الحجة لا لإمكان التغيير ورجاء التحول من حال إلى حال، فالأمر مفروغ عنه قال تعالى: * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) *.
مدفوع: بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد وشقاوة الشقي لازمة ضرورية، فإن السعادة والشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة، إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، وكذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه، فتلغو الحجة منه تعالى، فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شئ من السعادة والشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة والسيئة واعتقاداته الحقة والباطلة.
على أن توسل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة - بمثل التعليم والتربية والإنذار والتبشير والوعد والوعيد والأمر والنهي وغير ذلك - أوضح دليل على أن الإنسان في نفسه على ملتقى خطين ومنشعب طريقين: السعادة والشقاوة، وفي إمكانه أن يختار أيا منهما شاء وأن يسلك أيا منهما أراد، ولكل سعي جزاء يناسبه، قال تعالى:
* (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى) * (5).
فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الذوات، وهناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الأوضاع والأحوال والعوامل الخارجة عن الذات الإنسانية المستقرة في ظرف الحياة وجو العيش، كالآداب والسنن والرسوم والعادات التقليدية، فإنها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها وتزجره عن مخالفتها، ولا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة