ولا طرفة عين، فإنما يتزود الإنسان من مجتمعه بأن يحرز أمورا من أوليات المادة الأرضية ويعمل عليها ما يسعه من العمل ثم يقتني من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه، ويعوض ما يزيد على حاجته من سائر ما يحتاج إليه مما عند غيره من أفراد المجتمع، كالخباز يأخذ لنفسه من الخبز ما يقتات به ويعوض الزائد عليه من الثوب الذي نسجه النساج... وهكذا، فإنما أعمال المجتمعين في ظرف اجتماعهم بيع وشرى ومبادلة ومعاوضة.
والذي يتحصل من الأبحاث الاقتصادية أن الإنسان الأولي كان يعوض في معاملاته العين بالعين من غير أن يكونوا متنبهين لأزيد من ذلك، غير أن النسب بين الأعيان كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة وعدمه، وبوفور الأعيان المحتاج إليها وإعوازها، فكلما كانت العين أمس بحاجة الإنسان أو قل وجودها توفرت الرغبات إلى تحصيلها، وارتفعت نسبتها إلى غيرها، وكلما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت بالكثرة والوفور انصرفت النفوس عنها وانخفضت نسبتها إلى غيرها، وهذا هو أصل القيمة.
ثم إنهم عمدوا إلى بعض الأعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها أصلا في القيمة تقاس إليه سائر الأعيان المالية بمالها من مختلف النسب كالحنطة والبيضة والملح، فصارت مدارا تدور عليها المبادلات السوقية، وهذه السليقة دائرة بينهم في بعض المجتمعات الصغيرة في القرى وبين القبائل البدوية حتى اليوم.
ولم يزالوا على ذلك حتى ظفروا ببعض الفلزات كالذهب والفضة والنحاس ونحوها، فجعلوها أصلا إليه يعود نسب سائر الأعيان من جهة قيمها، ومقياسا واحدا يقاس إليها غيرها، فهي النقود القائمة بنفسها وغيرها يقوم بها.
ثم آل الأمر إلى أن يحوز الذهب المقام الأول والفضة تتلوه، ويتلوها غيرهما، وسكت الجميع بالسكك الملوكية أو الدولية، فصارت دينارا ودرهما وفلسا وغير ذلك بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث.
فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلا في القيمة بهما يقوم كل شئ، وإليهما يقاس ما عند الإنسان من مال أو عمل، وفيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية، وهما ملاك الثروة والوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما، إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، وإذا وقفا وقفت.
وقد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الإنسانية - من حفظ قيم الأمتعة والأعمال، وتشخيص نسب بعضها إلى بعض - الأوراق الرسمية الدائرة اليوم فيما بين الناس كالبوند والدولار وغيرهما والصكوك البنجية المنتشرة فإنها تمثل قيم الأشياء من غير أن تتضمن عينية لها قيمة في نفسها، فهي قيم خالصة مجردة تقريبا.
فالتأمل في مكانة الذهب والفضة الاجتماعية - بما هما نقدان حافظان للقيم، ومقياسان يقاس إليهما الأمتعة والأموال بمالها من النسب الدائرة