وأحسوا بالفتنة والفساد، وهددهم اختلال النظم ووقوع الهرج، فبادروا إلى تقديم بعض اولي الطول والقوة منهم وألقوا إليه زمام الملك، فصار ملكا يملك أزمة الأمور، ثم يعود الأمر على ما كان عليه من التعدي والتحميل.
ولم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي وإطلاقهم فيما يشاؤون، فوضعت قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الأمم وأجبرت الملوك باتباعها وصار الملك ملكا مشروطا بعد ما كان مطلقا، واتحد الناس على التحفظ على ذلك وكان الملك موروثا.
ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم وسوء سيرهم، ولا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة الملك وتثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة، فبدلوا الملك برئاسة الجمهور، فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط، وربما وجد في الأقوام والأمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم، وربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل أفهامنا إليه إلى هذا الآن.
لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعي التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا الأمر - أعني إلقاء زمام الأمة إلى من يدبر أمرها، ويجمع شتات إراداتها المتضادة وقواها المتنافية - أن لاغنى للمجتمع الإنساني عن هذا المقام وهو مقام الملك وإن تغيرت أسماؤه، وتبدلت شرائطه بحسب اختلاف الأمم ومرور الأيام، فإن طروق الهرج والمرج واختلال أمر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم اجتماع أزمة الإرادات والمقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.
وهذا هو الذي تقدم في أول الكلام: أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع الإنساني.
وهو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها وإصلاحها ورفع نواقصها وآثارها المضادة لسعادة الإنسانية.
وللنبوة في هذا الإصلاح السهم الأوفى، فإن من المسلم في علم الاجتماع أن انتشار قول ما من الأقوال بين العامة - وخاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة، ويستحسنه القريحة، ويطمأن إليه النفوس المتوقعة - أقوى سبب لتوحيد الميول المتفرقة وجعل الجماعات المتشتتة يدا واحدا تقبض وتبسط بإرادة واحدة لا يقوم لها شئ.
ومن الضروري أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل، وتمنعهم عن الظلم، وتندبهم إلى عبادة الله والتسليم له، وتنهاهم عن اتباع الفراعنة الطاغين، والنماردة المستكبرين المتغلبين، ولم تزل هذه الدعوة بين الأمم منذ قرون متراكمة جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة وإن اختلفت بحسب السعة والضيق باختلاف الأمم والأزمنة، ومن المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوي بين الاجتماعات الإنسانية قرونا