متمادية وهو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.
وقد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئا كثيرا من الوحي المنزل على الأنبياء (عليهم السلام) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه: * (رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم) * (1)، وكذا ما وقع بينه وبين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن، قال تعالى:
* (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) * (2)، وقول هود (عليه السلام) لقومه:
* (أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين) * (3)، وقول صالح (عليه السلام) لقومه: * (فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) * (4)...
وأما أن الملك - بالضم - من ضروريات المجتمع الإنساني فيكفي في بيانه أتم بيان قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) * (5)، وقد مر بيان كيفية دلالة الآية بوجه عام.
وفي القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك والولاية وافتراض الطاعة ونحو ذلك، وأخرى تعده نعمة وموهبة كقوله تعالى: * (وآتيناهم ملكا عظيما) * (6)، وقوله تعالى: * (وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) * (7)، وقوله تعالى: * (والله يؤتي ملكه من يشاء) * (8)، إلى غير ذلك من الآيات.
غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى، لحصره الكرامة على التقوى من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شئ من الكرامة من مزايا الحياة، قال تعالى: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (9)، والتقوى حسابه على الله ليس لأحد أن يستعلي به على أحد، فلا فخر لأحد على أحد بشئ، لأنه إن كان أمرا دنيويا فلا مزية لأمر دنيوي ولا قدر إلا للدين، وإن كان أمرا أخرويا فأمره إلى الله سبحانه، وعلى الجملة: لا يبقى للإنسان المتلبس بهذه النعمة - أعني الملك - في نظر رجل مسلم إلا تحمل الجهد ومشقة التقلد والأعباء، نعم له عند ربه عظيم الأجر ومزيد الثواب إن لازم صراط العدل والتقوى.
وهذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين، وسنشبع إن شاء الله العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة،