استدل من قال: إنها أفضل من المدينة. قال القاضي عياض: إن موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الأرض، وإن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلفوا في أفضلها ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أهل مكة والكوفة والشافعي وابن وهب وابن حبيب المالكيان: إن مكة أفضل وإليه مال الجمهور، وذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى أن المدينة أفضل، واستدل الأولون بحديث عبد الله بن عدي المذكور في الباب. وقد أخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وغيرهم. قال ابن عبد البر: هذا نص في محل الخلاف، فلا ينبغي العدول عنه، وقد ادعى القاضي عياض الاتفاق على استثناء البقعة التي قبر فيها صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أنها أفضل البقاع، قيل: لأنه قد روي أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق، كما روى ذلك ابن عبد البر في تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفا ويجاب عن هذا بأن أفضلية البقعة التي خلق منها صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان بطريق الاستنباط ونصبه في مقابلة النص الصريح الصحيح غير لائق، على أنه معارض بما رواه الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذي منه خلق صلى الله عليه وآله وسلم من تراب الكعبة، فالبقعة التي خلق منها من بقاع مكة، وهذا لا يقصر عن الصلاحية لمعارضة ذلك الموقوف، لا سيما وفي إسناده عطاء الخراساني، نعم إن صح الاتفاق الذي حكاه عياض كان هو الحجة عند من يرى أن الاجماع حجة (وقد استدل) القائلون بأفضلية المدينة بأدلة منها حديث: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة كما في البخاري وغيره، مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها وهذا أيضا مع كونه لا ينتهض لمعارضة ذلك الحديث المصرح بالأفضلية هو أخص من الدعوى، لأن غاية ما فيه أن ذلك الموضع بخصوصه من المدينة فاضل وأنه غير محل النزاع. وقد أجاب ابن حزم عن هذا الحديث بأن قوله: إنها من الجنة مجاز، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) * (سورة طه، الآية: 118) وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، كما يقال في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم: الجنة تحت ظلال السيوف قال: ثم لو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلا لتلك البقعة خاصة (فإن قيل) إن ما قرب منها أفضل مما بعد، لزمهم أن يقولوا:
(٩٩)