يتفاضل الناس بالمنازل لا بالعين حتى في الصورة من جميل وأجمل وغير جميل ولهذا ما جاء رضي الله عنه في ذكر الرجال بأكثر من أربعة فما أراد بالأربعة إلا ما ذكرناه وما أراد بالرجال في هذه الآيات الذكران خاصة وإنما أراد هذا الصنف الإنساني ذكرا كان أو أنثى ولما قلت له في قوله يأتوك رجالا المراد به من أنى ماشيا على رجله قال رضي الله عنه الرجل لا يكون محمولا والراكب محمول فعلمت ما أراد فإنه قد علم إن رسول الله ص ما أسرى به إلا محمولا على البراق فسلمت إليه ما قال وما أعلمته رضي الله عنه إن البقاء على الأصل هو المطلوب لله من الخلق ولهذا ذكره تعالى بقوله وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا يعني موجودا يقول له ينبغي لك أن تكون وأنت في وجودك من الحال معي كما كنت وأنت في حال عدمك من قبولك لأوامري وعدم اعتراضك يأمره بالوقوف عند حدوده ومر اسمه فيتكلم حيث رسم له أن يتكلم ويتكلم بما أمره به أن يتكلم فيكون سبحانه هو المتكلم بذلك على لسان عبده وكذلك في جميع حركاته وسكناته وأحواله الظاهرة والباطنة لا يقول في وجوده إنه موجود بل يرى نفسه على صورته في حال عدمه هذا مراد الحق منه بالخطاب فهو محمول بالأصالة غير مستقل فإن المحدث لا يستقل بالوجود من غير المرجح فلا بد أن يكون محمولا ولهذا ما أسرى برسول قط إلا على براق إذا كان إسراء جسميا محسوسا وإذا كان بالإسراء الخيالي الذي يعبر عنه بالرؤيا فقد يرى نفسه محمولا على مركب وقد لا يرى نفسه محمولا على مركب لكن يعلم أنه محمول في الصورة التي يرى نفسه فيها إذ قد علمنا أن جسمه في فراشه وفي بيته نائم فاعلم ذلك وأما ما ذهب إليه الشيخ من الاستقلال وعدم الركوب فذلك هو الذي يحذر منه فإنه الاختلاس الذي ذكرنا فإن العبد هنا اختلسته نفسه بالاستقلال وهو في نفسه غير مستقل فأخذه ذلك الاختلاس من يد الحق فتخيل أنه غير محمول فلم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسه جهل ربه فكان الغير هنا الذي نظر إليه عين نفسه وذلك لضعفه في العلم بالأصل الذي هو عليه ولا شك أن مرتبة الرسل ع قد جمعت جميع مراتب الرجال من نبوة وولاية وإيمان وهم المحمولون فمن ورثهم وكان محمولا يعلم ذلك من نفسه وإنما قلنا يعلم ذلك من نفسه لأن الأمر في نفسه أنه محمول ولا بد ولكن من لا علم له بذلك يتخيل أنه غير محمول فلهذا قيدنا وفي قوله يأتوك رجالا فالذي دعاهم قال لهم قولوا وإياك نستعين وقال لهم استعينوا بالله واصبر وأو كل معنى محمول بلا شك فإنه غير مستقل بالأمر إذ لو استقل به لما طلب العون والمعين وقوله رضي الله عنه رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فهم في تجارتهم في ذكر الله لأن التجارة على الحد المرسوم الإلهي من ذكر الله كما قالت عائشة عن رسول الله ص أنه كان يذكر الله على كل أحيانه مع كونه يمازح العجوز والصغير وكل ذلك عند العالم ذكر الله لأنه ما من شئ إلا وهو يذكر بالله فمن رأى شيئا لا يذكر الله عند رؤيته فما رآه فإن الله ما وضعه في الوجود إلا مذكرا فلم تلههم التجارة ولا البيع عن ذكر الله وكذلك رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في أخذ الميثاق الذي أخذ الله عليهم فوفوا به وقيل فيهم صدقوا لأنهم غالبوا فيه وفي الوفاء به الدعاوي المركوزة في النفوس التي أخرجت بعض من أخذ عليه الميثاق أو أكثره عن الوفاء بما عاهد عليه الله فليس الرجل إلا من صدق مع الله في الوفاء بما أخذ عليه كما صدق النبي فيما أخذ الله عليه في ميثاق النبيين والمرسلين وقوله وعلى الأعراف رجال وهم أعظم الرجال في المنزلة فإن لهم الاستشراف على المنازل فما أشار بالأعراف هنا هذا الشيخ إلى من تساوت حسناته وسيئاته وإنما أخذه من حيث منزلة الاستشراف فإن الأعراف هنا هو السور الذي بين الجنة والنار باطنه فيه الرحمة وهو الذي يلي الجنة وظاهره من قبله العذاب وهو الذي يلي النار فجعل النار من قبله أي يقابله والمقابل ضد فلم يجعل السور محلا للعذاب وجعله محلا للرحمة بقوله باطنه فيه الرحمة فانظر ما أعجب تنبيه الله عباده بحقائق الأمور على ما هي عليه ولكن أكثر الناس لا يعلمون فأهل الأعراف في محل رحمة الله وذلك هو الذي أطمعهم في الجنة وإن كانوا بعد ما دخلوها ثم ذكر أن لهم المعرفة بمقام الخلق فقال يعرفون كلا بسيماهم أي بما جعلنا فيهم من العلامة وقوله ونادوا أصحاب الجنة لم يدخلوها فإنهم في مقام الكشف للأشياء فلو دخلوا الجنة استتر عنهم بدخولهم فيها وسترتهم لأنها جنة عن كشف ما هم له كاشفون وقولهم سلام عليكم تحية إقبال عليهم لمعرفتهم بهم وتحية لانصرافهم عنهم
(١٠)