إن قوما منا خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وصاروا إليك فردهم الينا، فبعث النجاشي إلى جعفر فجاؤوا به، فقال: يا جعفر! ما يقول هؤلاء؟
فقال جعفر: أيها الملك وما يقولون؟ قال: يسألون أن أردكم إليهم، قال: أيها الملك سلهم أعبيد نحن لهم؟ فقال عمرو، لا بل أحرار كرام، قال:
فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ قال:
لا مالنا عليكم ديون، قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟ قال عمرو: لا، قال: فما تريدون منا؟ آذيتمونا فخرجنا من بلادكم، فقال عمرو بن العاص: أيها الملك خالفونا في ديننا وسبوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا وفرقوا جماعتنا فردهم إلينا لتجمع أمرنا، فقال جعفر: نعم أيها الملك خالفناهم بأنه بعث الله فينا نبيا أمر بخلع الأنداد، وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصلاة والزكاة، وحرم الظلم والجور وسفك الدماء بغير حقها والزناء والربا والميتة والدم، وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فقال النجاشي: بهذا بعث الله عيسى بن مريم (عليه السلام)، ثم قال النجاشي: يا جعفر هل تحفظ مما أنزل الله على نبيك شيئا؟ قال: نعم، فقرأ عليه سورة مريم فلما بلغ إلى قوله * (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا) * فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاءا شديدا، وقال: هذا والله هو الحق، فقال عمرو بن العاص:
أيها الملك إن هذا مخالفنا فرده إلينا، فرفع النجاشي يده فضرب بها وجه عمرو ثم قال:
اسكت، والله يا هذا لأن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك، فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه وهو يقول: إن كان هذا كما تقول أيها الملك فإنا لا نتعرض له.
وكانت على رأس النجاشي وصيفة له تذب عنه، فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميلا فأحبته، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله قال لعمارة: لو راسلت جارية الملك، فراسلها فأجابته، فقال عمرو: قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا، فقال لها فبعثت إليه، فأخذ عمرو من ذلك الطيب، وكان الذي فعل به عمارة في قلبه حين ألقاه في البحر، فأدخل الطيب على النجاشي فقال: أيها الملك إن حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذا دخلنا بلاده ونأمن فيه أن لا نغشه ولا نريبه وإن صاحبي هذا الذي معي قد أرسل إلى حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك ثم وضع الطيب بين يديه، فغضب النجاشي وهم بقتل عمارة ثم قال: لا يجوز قتله فإنهم دخلوا بلادي فأمان لهم، فدعا النجاشي السحرة فقال لهم اعملوا به شيئا أشد عليه من القتل، فأخذوه ونفخوا في إحليله الزئبق فصار مع الوحش يغدو ويروح، وكان لا يأنس بالناس فبعثت قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش، فأخذوه فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات.
ورجع عمرو إلى قريش فأخبرهم أن جعفر في أرض الحبشة في أكرم كرامة، فلم يزل بها