في الأولى والآخرة وله الحكم) * (1) لكن تحليل معنى هذا الملك الوضعي يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتا غير قابل للزوال والانتقال، كما أن الواحد منا يملك نفسه بمعنى أنه هو الحاكم المسلط المتصرف في سمعه وبصره وسائر قواه وأفعاله، بحيث إن سمعه إنما يسمع وبصره إنما يبصر بتبع إرادته وحكمه، لابتبع إرادة غيره من الأناسي وحكمه، وهذا معنى حقيقي لا نشك في تحققه فينا مثلا تحققا لا يقبل الزوال والانتقال كما عرفت، فالإنسان يملك قوى نفسه وأفعال نفسه وهي جميعا تبعات وجوده قائمة به غير مستقلة عنه ولا مستغنية عنه، فالعين إنما تبصر بإذن من الإنسان الذي يبصر بها، وكذا السمع يسمع بإذن منه، ولولا الإنسان لم يكن بصر ولا إبصار ولا سمع ولا استماع، كما أن الفرد من المجتمع إنما يتصرف فيما يتصرف فيه بإذن من الملك أو ولي الأمر، ولو لم تكن هذه القوة المدبرة التي تتوحد عندها أزمة المجتمع لم يكن اجتماع، ولو منع عن تصرف من التصرفات الفردية لم يكن له أن يتصرف ولا نفذ منه ذلك، ولا شك أن هذا المعنى بعينه موجود لله سبحانه الذي إليه تكوين الأعيان وتدبير النظام، فلا غنى لمخلوق عن الخالق عز اسمه لا في نفسه ولا في توابع نفسه من قوى وأفعال، ولا استقلال له لا منفردا ولا في حال اجتماعه مع سائر أجزاء الكون وارتباط قوى العالم وامتزاج بعضها ببعض امتزاجا يكون هذا النظام العام المشاهد.
قال تعالى: * (قل اللهم مالك الملك) * (2) وقال تعالى: * (لله ملك السماوات والأرض) * (3) وقال تعالى: * (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير * الذي خلق الموت والحياة - إلى أن قال - الذي خلق سبع سماوات طباقا) * (4) والآيات - كما ترى - تعلل الملك بالخلق، فكون وجود الأشياء منه وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيتها إليه تعالى هو الملاك في تحقق ملكه، وهو بمعنى ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره ولا يزول عنه إلى غيره، ولا يقبل نقلا ولا تفويضا يغني عنه تعالى وينصب غيره مقامه.
وهذا هو الذي يفسر به معنى الملكوت في قوله: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ) * (5) فالآية الثانية تبين أن ملكوت كل شئ هو كلمة " كن " الذي يقوله الحق سبحانه له، وقوله فعله، وهو إيجاده له.
فقد تبين أن الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه وقيامها به، وهذا أمر لا يقبل الشركة ويختص به سبحانه وحده، فالربوبية التي هي الملك والتدبير لاتقبل تفويضا ولا تمليكا انتقاليا.
ولذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية، كما قال تعالى: * (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات