الأرواح، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (1)، وقال: * (مطاع ثم أمين) * (2)، وقال: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق) * (3).
ولا ينافي هذا الذي ذكر - من توسطهم بينه تعالى وبين الحوادث، أعني كونهم أسبابا تستند إليها الحوادث - استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية، فإن السببية طولية لا عرضية، أي إن السبب القريب سبب للحادث، والسبب البعيد سبب للسبب.
كما لا ينافي توسطهم واستناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى وكونه هو السبب الوحيد لها جميعا على ما يقتضيه توحيد الربوبية، فإن السببية طولية كما سمعت لا عرضية، ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة، وقد صدق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدق استنادها إلى الملائكة.
وليس لشئ من الأسباب استقلال قباله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين، فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شئ من كل جهة:
لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتبة القريبة والبعيدة وانتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده وبالقلم، فللكتابة استناد إلى القلم، ثم إلى اليد التي توسلت إلى الكتابة بالقلم، وإلى الإنسان الذي توسل إليها باليد وبالقلم، والسبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقل بالسببية، من غير أن ينافي سببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد وإلى القلم.
ولا منافاة أيضا بين ما تقدم أن شأن الملائكة هو التوسط في التدبير وبين ما يظهر من كلامه تعالى أن بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى وتسبيحه والسجود له، كقوله: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (4)، وقوله: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) * (5).
وذلك لجواز أن تكون عبادتهم وسجودهم وتسبيحهم عين عملهم في التدبير وامتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزة بالتوسط، كما ربما يومئ إليه قوله تعالى: * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) * (6) (7).