العقاب منه تعالى في الشبهة، لأنه قبيح، ويمتنع صدور القبيح عنه تعالى، خلافا للأشاعرة المنكرين للحسن والقبح العقليين (1)، حيث ذهبوا إلى الجبر بمقتضى الأدلة الخاصة (2) التي لا ينالها إلا الأخصائيون، وأهل الحل والعقد.
وهذا أمر يختص به تعالى، ضرورة أنه بالنسبة إلى قبح العقاب بلا بيان، لا يكتفي العقل، لجواز ارتكاب المولى القبيح، وقد ارتكب كثير من الموالي العرفيين القبائح الكثيرة، فلا بد أن لا يقف العقل إلا بعد إثبات الامتناع، وأنه قبيح بحكم العقل، وممتنع صدوره منه تعالى أيضا بالبراهين العقلية، وأن حديث الجبر مما لا أساس له إلا عدة توهمات شاعرة، وذوقيات عرفانية، وتقريبات وتسويلات شيطانية، تحرر منا تفصيلها في " قواعدنا الحكمية " (3) وللوالد المحقق - مد ظله - رسالة خاصة فيها.
فتحصل: أن ما يتمسك به الأصوليون هي البراءة العقلائية، ولا ينكرها حتى الأشعري، إلا أن العقل يجوز الوقوع في المهلكات بعد احتمال صدور القبيح من المولى، فلا بد من البراءة الثالثة: وهي إثبات امتناع صدور القبيح، وإن كان يكفي عند العقلاء الثانية أيضا، وعند المتشرعة الأولى، إلا أنه لا بد من سد باب الابتلاء بالعقاب الأخروي، ولا يكفي ولا يقف العقل بعد وجود الاحتمال، ولا سيما بالنسبة إلى البراءة الشرعية، كما لا يخفى أصلا.
وبالجملة: ما دام لم ينضم إلى تلك البراءتين هذه البراءة العقلية، لا يستريح العقل في الشبهات، ضرورة أن في مثل البراءة النقلية، يجوز تخلف الأدلة اللفظية عن الواقع، فعند ذلك يتشبث العقل بتلك البراءة، لأن على جميع الفروض لا تكون الحجة والبيان تاما، كما هو الواضح.