ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدتهم، وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطنا يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم.
وهذا وإن كان أمرا ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التي يدفعهم الفطرة إلى رفعها، غير أن فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد، فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة وتألفها وتقويها بالتراكم والتوحد، لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح، وهذا أمر مشهود من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصرا ثم... ثم نباتا ثم حيوانا ثم إنسانا.
والانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأمة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الأخرى، فيصير واحدا منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الأخرى، فتنعزل الإنسانية عن التوحد والتجمع وتبتلي من التفرق والتشتت بما كانت تفر منه، ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة (أعني الآحاد الاجتماعية) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام واستثمار وغير ذلك، والتجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك، وما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم.
وهذا هو السبب في أن ألغى الإسلام هذه الانشعابات والتشتتات والتميزات، وبنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك، حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث، فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلا.
ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل أمره في حال من الأحوال، فعلى المجتمع الإسلامي عند أوج عظمته واهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين وإعلاء كلمته...
وعلى هذا القياس، حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والإشارة في الأعمال المفروضة عليه.
ومن هنا يظهر أن المجتمع الإسلامي قد جعل جعلا يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية وغالبية ومغلوبية وتقدم وتأخر وظهور وخفاء وقوة وضعف. ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص، قال تعالى: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (1) وقوله: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * (2) وقوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (3) وقوله: * (يا أيها الذين آمنوا