ودخلت على ولدها عنده فوجدته على برش وعنده كسرة يابسة وملح، فرجعت إلى الشيخ وقالت يا سيدي لا يطيب خاطري بإقامة ولدي عندك إلا إن أطعمته مما تأكل وكان بين يديه دجاجة فقال إذا صار ولدك يحيي الموتى بإذن الله أطعمته من طعامي، ثم أمر الدجاجة فانتفضت من الإناء وصارت حية، ثم ذهبت إلى حال سبيلها، فلولا أن الشيخ أقام البرهان على طعامه اللذيذ لفارقته تلك المرأة وهي منكرة عليه.
وكذلك يتعين على الشيخ أن يوطن نفسه على تحمل أذى من يأمره من إخوانه بأنه يترك الدنيا وهو لم يشرف على الدار الآخرة بقلبه، فإنه كالكلب العاكف على الجيفة كل من منعه من الأكل منها يكشر أسنانه ويهبهب عليه، وربما عضه حتى يرجع عنه، فليكن أمر الشيخ إخوانه بترك الدنيا بسياسة ورفق ورحمة وتقديم مقدمات وذكر ما كان السلف الصالح عليه ثم يقول يرحم الله من اقتدى بهم. وليحذر من التكدر منهم بالباطن إذا عصوا أمره وليس عليه إلا أن يظهر لهم عدم الرضا بكثرة رغبتهم في الدنيا لا غير كما يظهر الوالد غضبه لولده إذا خالفه، ويعبس في وجهه وقلبه راحم له مشفق عليه، وربما ضربه بالعصا وربما نخست الأم ولدها بالإبرة في يده حتى أخرجت دمه ومع ذلك فيقضي العقل بأن ذلك كله ليس ببغض لولدها وإنما هو لوفور شفقة والدته عليه، فليوطن الداعي إلى طريق الله عز وجل نفسه على سماع كل مكروه ممن يدعوهم لأنهم عمى عما يدعوهم إليه ثم إذا انجلى حجابهم فسوف يشكرون الداعي لهم إلى الخير، وإن لم ينجل حجابهم فقد وفى الداعي بما عليه من النصح والجهاد فيهم.
ثم لا يخفى أنه لا بد أن ينقسم جماعة كل داع إلى الله تعالى كما انقسم من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين الإسلام إذ هو الشيخ الحقيقي لجميع الأمة كما مر بيانه أول خطبة الكتاب، وجميع الدعاة نوابه صلى الله عليه وسلم فلا بد يقع لهم مع أصحابهم كما وقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه، فمنهم من يقول:
سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومنهم من يقول: سمعنا وعصينا ومنهم من يقول: سمعنا وأطعنا نفاقا.
ومنهم من يقول إنما يريد هذا الشيخ بدعائنا إلى الله الفضل والرياسة علينا عند الناس، ومنهم من يقول إنما يريد بذلك نصحنا ونجاتنا من النار، ومنهم من لا يتحول عن محبة شيخه في شدة ولا رخاء، ومنهم من هو معه على الرخاء فإذا جاءت الشدة تحول