وقد ذكرنا في العهود السابقة أن حقيقة الزهد في الدنيا إنما هو زوال محبة المال والطعام والمنام والكلام، فلا يزال السالك يتبع أستاذه وهو يخلصه من شبائك الأوهام شيئا فشيئا إلى أن يخلصه من الدنيا بأسرها ثم يرجع به رجوعا ثانيا، ويقول له أمسك جميع ما كنت أنهاك عنه في الذهاب وانو له نية صالحة واستعمل كل شئ فيما خلق له على الوجه المشروع، على أن الزاهدين والمتورعين كلهم لا يصح لهم الزهد ولا التورع عما قسمه الحق لهم أبدا، إنما حقيقة الزهد والتورع زوال تعلق القلب بما لم يقسم لا غير.
فعلم أن المريد متى رأى شفوق نفسه على من لم يزهد ولم يتورع فهو في عالم الطبيعة، وورعه وزهده لا حقيقة له، وهذا ورع أكثر الناس اليوم كأنه يظن بنفسه أنه كان قادرا أن يأكل ما قدر عليه من الحرام، ومنع نفسه منه، وغاب عنه أن كل شئ تركه تبين أنه لم يقسم له فكيف يرى بذلك نفسه؟ فالورع الحقيقي إنما هو حماية الله تعالى للعبد فلا يقسم له الأكل من شئ للشرع عليه اعتراض، فيستخرج له الحلال كما يستخرج له اللبن من بين فرث ودم.
وقد درج العلماء العاملون كلهم على عدم أخذهم من الدنيا فوق زاد الراكب.
وقد بلغنا أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما غضب من سلطان مصر حمل أمتعة بيته على حمارته وأركب زوجته فوقها وخرج من مصر، فانظر يا أخي شيخ الإسلام واعتبر به رضي الله عنه، والله يتولى هداك.
ثم يتعين على كل من ادعى المشيخة في الطريق أن يتظاهر برمي الدنيا وترك مطاعمها اللذيذة وملابسها النفيسة وفرشها الرفيعة ومراكبها المسومة، وذلك لئلا يتبعه المقتدون فيهلكون فإنهم لا يتعلقون مشهده بتقدير صدقه وربما كذبوه في دعواه حين يرون أفعاله تخالف أقواله، فيحجبهم شاهد الفعل عن شاهد القول.
وكذلك يتعين على الشيخ أن يكون أكثر من المريدين سهرا لليل وأكثر جوعا، وأقل لغوا وأكثرهم صدقة، وذلك ليكون إماما يقتدون به في الأفعال، وأما إذا كان أكثرهم نوما وأكثرهم أكلا حتى صار بطنه كبطن الدب أو أكثرهم لغوا أو أقلهم صدقة وخيرا، فإنهم يرون نفوسهم عليه ضرورة فلا يثبت له قدم في الإمامة وتطرده المرتبة عنها ودعواه المشيخة زور وبهتان لا برهان عليه.
وقد دخلت امرأة على سيدي الشيخ عبد القادر الجبلي فرأته في ملابس ومآكل وفرش