المسجد لأنه بيته الخاص ولولا خصوصية المسجد ما أمر الشارع بالاعتكاف فيه دون البيوت والأسواق وغيرهما، ولو أراد صاحب القدم من الأولياء أن تحصل له مراقبة الله تعالى في غير المسجد مثل المسجد لما قدر، فما أمرنا الله تعالى ورسوله بالاعتكاف في المسجد إلا لنتنبه لأنفسنا، ونعلم أننا بين أيدي الله تعالى على الدوام شعرنا أو لم نشعر، فإذا ذقنا ذلك في المسجد وتلذذنا بمراقبة الحق تعالى فيه انجر ذلك إن شاء الله تعالى إلى خارج المسجد، وصرنا نشهد كوننا بين يدي الله تعالى على الدوام على الكشف والشهود إلا ما شاء الله تعالى.
ومن هنا شرع القوم الخلوة للمريد ليتمرن على الوحدة وعدم الشواغل عن الله تعالى وأمر الأشياخ مريديهم بعدم مد الرجل في الخلوة على التقليد والإيمان بأنهم بين يدي الله تعالى، وكذلك أمروه أن لا يشتغل في الخلوة إلا بالمأمورات الشرعية وذلك ليعاين العبد ربه فيها على التقليد.
وقد قال بعضهم لا تناج ربك إلا بكلامه فإنك إن ناجيته بغير كلامه لم يجبك إلا إن كنت مضطرا، فتسامح بمناجاته بغير كلامه تعجيلا لزوال الاضطرار. فاعلم أن المريد لا يزال يراعي الأدب إيمانا حتى يصير مشهودا ويصير يتأدب مع الله خارج الخلوة كما مر في الكتاب، ووالله لو كشف عن المؤمن الحجاب، لما قدم على مجالسته تعالى شيئا، ولكان الحجاب عليه أشد من دخوله النار.
وانظر إلى اعتناء الحق جل وعلا بمحمد صلى الله عليه وسلم كيف جعل عينيه تنامان ولا ينام قلبه، تعجيلا لنعيمه في الدنيا قبل الآخرة من غير أن ينقص من نعيمه الأخروي شئ، وهذا المقام لغيره من الأنبياء ولكل وارث له من بعده، فتنام عيناه ولا ينام قلبه، وذلك ليكون حكمه من حيث شهود الحق تعالى كاليقظان، وحكمه من جهة راحة جسده كالنائم، ليعطى كل ذي حق حقه، فعلم أن نوم الأكابر لا ينقص به رأس مالهم، وإنما هو من نعمة الله تعالى عليهم لكونه غلبة لا تعمل لهم فيه، بخلاف من يتعمل ويفرش تحته طراحة ويضع له مخدة لغير ضرورة فإن مثل هذا ينقص رأس ماله بيقين.
واعلم يا أخي أنه يحتاج من يريد العمل بهذا العهد إلى السلوك على يد شيخ وإلا فمن لازمه غالبا غفلته عن حضرة ربه بشهوة من شهواته فإنه ما تعاطاها مع معرفته بأنها تخرجه عن حضرة ربه إلا وهو مختار لها، ففيها رائحة اختيار مجالسة غير الحق على الحق، وذلك يكاد أن يكون حراما وأكثر الناس في غمرة ساهون عن جميع ما قلناه، فلا يزال السالك