العدل وقبح الظلم، وبالتالي يحكم العقل برفض كل حديث وإن كان صحيحا يفيد جواز الجزع، نظير رده للأحاديث الدالة على التجسيم، ويبدو أن عمدة الخطأ الذي وقع فيه (فضل الله) يرجع إلى هذا الجانب أي عدم التمييز بين المستقلات العقلية وغيرها.
وتبيينا للحقيقة ننقل كلام العلامة الشعراني (قدس سره) لما فيه من التبسيط والوضوح في بيان الحسن والقبح العقليين الذاتيين ومورد تطبيقهما، قال:
(احتجوا - أي الأشاعرة - بوجوه: منها: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا). ومنها: أن الحسن والقبح يختلفان باختلاف الأزمان والبلاد كقبح ذبح الحيوان عند أهل الهند دون المسلمين وقبح التزويج للعلماء عند النصارى دون المسلمين. ومنها: أنهما لو كانا ذاتيين لم يجز نسخ الاحكام في الشرائع. ومنها: إنه لو قال (لأكذبن غدا)، فإن وفى بعهده وكذب لزم كون كذبه حسنا لوفائه بما وعد، وقبيحا لأنه كذب، ولو كانا وصفين ثابتين لزم اجتماع الضدين في فعل واحد، فعلم منه أن هذين ليسا بوصفين ثابتين للأفعال من حيث هي.
والجواب عن الآية الشريفة: أنا لا ندعي إحاطة العقل بجميع وجوه محاسن الافعال ومقابحها، بل هي كالأمور التكوينية بعضها تعرف بالضرورة كقبح الظلم، وقد تعرف بالاستدلال، وقد لا تعرف بالعقل أصلا كحسن صوم رمضان وهو الأكثر، ولا يجوز للشارع أن يعذب الناس على ما لا يعرفون، وهذا لا يدل على عدم وجود جهة الحسن في الافعال ذاتا...
والجواب عن الثاني: أن اختلاف الناس في حسن بعض الافعال أو قبحها كاختلافهم في كثير من الأمور التكوينية لا يوجب الحكم بعدم قدرة العقل على إدراك شئ منها، فاختلافهم في قبح ذبح الحيوان نظير اختلافهم في أن كل موجود محسوس وفي مكان، وكل جسم يميل إلى السفل، ولو كان الاختلاف دليلا على عدم صلاحية العقل للادراك لوجب الاعتراض عن جميع العلوم لاختلاف العقلاء في بعض مسائلها.
وعن الثالث: أن نسخ الاحكام يجوز لتبدل العناوين أو لتعارض الجهات المحسنة والمقبحة، مثلا قطع اليد قبيح لانطباق عنوان الظلم عليه لا لأنه قطع اليد، وإذا كان حدا للسرقة أو قصاصا صار حسنا، فموضوع الحسن شئ موضع القبح شئ آخر، وكذلك الكذب قبيح ذاتا وقد يعارضه جهة حسن فيه أقوى كإنجاء نبي مثلا فيصير حسنا لا بمعنى أن الكذب حسن بل إنجاء النبي حسن يرتكب لرجحانه على قبح الكذب، ويمكن أن يكون نسخ الاحكام في الشرائع لمثل ذلك.
وعن الرابع: أن عملا واحدا ذا عنوانين حسن وقبيح إذا تعارض فيه الجهتان فمتابعة الأرجح حسنة ومتابعة الاخر قبيحة، ويمكن أن يقال في المثال المذكور أن مراعاة قبح الكذب أولى من مراعاة حسن الوفاة بالعهد) (1).