وبناء على ذلك فإن ثبت كون الجزع قبيحا كقبح الكذب صح القول بحرمته، إلا أن القول بحرمته في جميع الأحوال من دون استثناء مبني على كون الجزع من مصاديق الظلم في جميع الأحوال وأن قبحه كقبح الظلم نفسه وذلك أول الكلام، فقد تكون بعض الصفات مذمومة ومحرمة في معظم الأحيان ولكن قد توجد بعض حالات الاستثناء التي يرتفع فيها القبح والحرمة إلا لتبدل العنوان أو لتعارض جهات الحسن والقبح نظير الكذب، فهو من المحرمات التي شدد الشاعر المقدس على حرمتها ولكنه أباحه بل أوجه في بعض الأحيان - كما في إنقاذ النفس المحترمة - نظرا لاختلاف متعلق الحكم وطروء ع نوان جديد مما يجعله في دائرة الاستثناء.
ومن هذا القبيل الجزع فإنه قابل للتخصيص والاستثناء، بل لقد ورد فيه التخصيص، فقد روى الشيخ الطوسي في الأمالي بسند معتبر عن الشيخ المفيد، قال: حدثنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب الزراد، عن أبي محمد الأنصاري، عن معاوية بن وهب، قال: (كنت جالسا عند جعفر بن محمد عليه السلام إذ جاء شيخ قد انحنى من الكبر، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، يا شيخ ادن مني، فدنا منه فقبل يده فبكى، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما يبكيك يا شيخ؟ قال له: يا بن رسول الله، أنا مقيم على رجاء منكم منذ نحو من مائة سنة، أقول هذه السنة وهذا الشهر وهذا اليوم، ولا أراه فيكم، أفتلومني أن أبكي! قال: فبكى أبو عبد الله عليه السلام ثم قال: يا شيخ إن أخرت منيتك كنت معنا، وإن عجلت كنت يوم القيامة مع ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال الشيخ: ما أبالي ما فاتني بعد هذا يا بن رسول الله. فقال له أبو عبد الله: يا شيخ إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله المنزل، وعترتي أهل بيتي، تجيء وأنت معنا يوم القيامة.
قال: يا شيخ ما أحسبك من أهل الكوفة، قال: لا، قال: فمن أين أنت؟ قال:
من سوادها جعلت فداك، قال: أين أنت من قبر جدي المظلوم الحسين عليه السلام؟ قال: إني لقريب منه. قال: كيف إتيانك له؟ قال: إني لآتيه وأكثر. قال: يا شيخ ذاك دم يطلب الله به، ما أصيب ولد فاطمة ولا يصابون بمثل الحسين عليه السلام، ولقد قتل في سبعة عشر من أهل بيته، نصحوا لله وصبروا في جنب الله، فجزاهم الله أحسن جزاء الصابرين، إنه إذا كان يوم القيامة أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه الحسين عليه السلام ويده على رأسه يقطر دما فيقول: يا رب، سل أمتي فيم قتلوا ولدي. وقال عليه السلام: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين) (1).