لحومهم هوام الأرض السغبة. ثم انهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر ولا معتبة، وتجازى كل نفس بما كانت مكتسبة، فسعيدة مقربة تجري من تحتها الأنهار مثوبة، وشقية معذبة في النار مكبكبة). هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي كما تراها ظاهرة التكلف بينة التوليد تخطب على نفسها، وإنما ذكرت هذا لان كثيرا من أرباب الهوى يقولون: إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح وركبوا بنيات الطريق، ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول:
لا يخلو إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا ملحونا أو بعضه، والأول باطل بالضرورة لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدثون كلهم أو جلهم والمؤرخون كثيرا منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
والثاني يدل على ما قلناه، لان من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفا من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لابد أن يفرق بين الكلام الركيك والفصيح وبين الفصيح والأفصح وبين الأصيل والمولد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط، فلابد أن يفرق بين الكلامين ويميز بين الطريقتين.
ألا ترى انا مع معرفتنا بالشعر ونقده لو تصفحنا ديوان أبي تمام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيرها، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى ان العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهب في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئا كثيرا لما ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة.
وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءا واحدا، ونفسا واحدا، وأسلوبا واحدا، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولا وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام) (1).
ه - العلامة محمد باقر المجلسي عند تعرضه لسند الزيارة الجامعة الكبيرة المروية في كتاب التهذيب للشيخ الطوسي، حيث قال: (مجهول، ولكن نفس الزيارة شاهد عدل على صحتها) (2).