هذا كله في البكاء والنوح، أما بالنسبة للجزع - وهو نقيض الصبر - وبعض صوره سواء كان بالبكاء أو الصراخ أو اللطم، فقد اختلفت كلمة الفقهاء فيه، وبما أن التفصيل فيه سيخرج البحث عما أريد له لذا سنطرح الامر بصورة كلية جامعة.
ذهب معظم الفقهاء إلى أن الجزع على الميت - أي عدم الصبر على موته - مكروه إلا أن يكون منافيا للرضا بقضاء الله فهو محرم، وفي هذا يقول السيد اليزدي،: (أما البكاء المشتمل على الجزع وعدم الصبر فجائز ما لم يكن مقرونا بعدم الرضا بقضاء الله، نعم يوجب حبط الاجر، ولا يبعد كراهته) (1).
وقد اتفقت كلمات المراجع المعلقين على هذا المتن، ولكن الامام الخميني ذهب إلى عدم حرمة الجزع المنافي للرضا بقضاء الله أيضا، فقد علق على اشتراط السيد اليزدي جواز البكاء على الميت بعدم منافاته للرضا بالقضاء بما يلي: (إن كان شرطا للجواز كما يظهر من ذيل كلامه فمحل إشكال بل منع، نعم الرضا بقضاء الله من أشرف صفات المؤمنين بالله، وعدم الرضا بقضائه من نقص الايمان بل العقل، وأما الحرمة فغير ثابتة، نعم يحرم القول المسخط للرب) (2).
ومن الواضح والمعلوم أن الجزع بكلا صورتيه لا يمكن صدوره عن المعصوم كالزهراء عليها السلام، فإنها لا ترتكب المكروه فضلا عن الحرام بضرورة المذهب، ولكن (فضل الله) قد اختلط عليه الامر فجعل كثرة البكاء من مصاديق الجزع المنافي للصبر أي المكروه، بل جعله من مصاديق الجزع المحرم أي عدم الرضا بقضاء الله، وقد مر علينا بعض ما يفند رأيه، وسنذكر المزيد عنه في الايرادين التاليين.
الايراد السابع: قام (فضل الله) بخلط كبير بين البكاء والصبر - مما حدى به إلى إنكار التاريخ الصحيح أيضا بسبب هذا الخلط والتصور الخاطئ -، واعتبر أن كثرة البكاء - بحيث يستوعب ذلك معظم وقت الزهراء عليها السلام - لا ينسجم مع الصبر والتسليم لقضاء الله وقدره، وبمراجعة للسنة المأثورة عن الرسول وأهل بيته (عليهم آلاف التحية والسلام) يتضح فساد هذا التوهم الباطل وإن كثرة البكاء لا تتنافى أبدا مع درجات الايمان.
وقد رأينا أن الاستشهاد بكلام السيد عبد الحسين شرف الدين (رضوان الله عليه) في (المقدمة الزاهرة لكتاب المجالس الفاخرة) يعتبر أفضل جواب على مغالطات (فضل الله)، وحديث السيد شرف الدين وإن كان أكثره حول البكاء على الامام الحسين عليه السلام إلا إنه يؤدي الغرض المطلوب أيضا لان (فضل الله) يتحدث عن أصل فكرة كثرة البكاء وعلاقتها بالصبر وإن كان الفقيد بمستوى رسول الله صلى الله عليه وآله ناهيك عمن هو دونه في المرتبة والفضل.