وكان يرسل بعض تلامذته إلى المذبح فيأتي بشعث اللحم وبالطحال ونحوهما للقطط كل يوم ويقول: " " إن غالب الناس اليوم لا يطعم قطة الدار شيئا، وإنما تخطف كلما قدرت عليه إذا جاعت على رغم أنفه " ".
وكان يتفقد النمل الذي في شقوق الدار ويضع له الدقيق ولباب الخبز على باب جحره ويقول: " " يمنعهم من الانتشار لأجل القوت، فإن النملة إذا جاعت خرجت تطلب رزقها ضرورة، وعرضت نفسها لوقوع حافر أو قدم عليها فتموت أو تنكسر رجلها، فإذا وجدت ما تأكل على باب جحرها استغنت عن الخروج " ".
قلت: " " مما وقع لي أن زوجتي فاطمة القصبية أم ولدي عبد الرحمن نزل عليها حادر وأشرفت على الموت وغابت عن إحساسها وصاحت أمها وأهل الدار عليها حين رأوا أمارات الموت فحصل عندي كرب شديد لأجلها من جهة موافقتها للمزاج ودينها وخيرها فإذا بقائل يقول لي: " " ادخل مجاز الخلاء تجد ذبابة في شق سحبها ضبع الذباب وهي صائحة يريد أكلها فخلصها ونحن نخلص لك زوجتك " "، فدخلت وصغيت؟؟ إلى الشق فسمعت صياح الذبابة فوجدت الشق ضيقا لا يسع الأصبع، فأدخلت عودا برفق واستخرجتها وخلصتها من ضبع الذباب، فأفاقت أم عبد الرحمن في الحال، وزغردت أمها، هذا أمر وقع لي " ".
وقد تقدم في هذه العهود أن سيدي أحمد بن الرفاعي وجد بأم عبيدة كلبا أجرب أبرص أجذم عافته نفوس الناس وأخرجوه من البلد، فمكث الشيخ يخدمه في صحراء أم عبيدة نحو أربعين يوما، وعمل عليه مظلة من الحر وصار يدهنه حتى برئ وغسله بالماء الحار، وقال: خفت أن يقول الله لي يوم القيامة: " " أما كانت فيك رحمة تشمل كلبا من خلقي " ".
وسمعت أخي أفضل الدين مرة يقول: " " من الأدب إذا ركب العبد دابة أن يرحمها بالنزول عنها ولا يركب إلا عند الضرورة " ". وقد رأيته رضي الله عنه قلب حافر الحمارة لما نزل من عليها وقبله، وقال: " " اجعليني في حل " " وصار يعتذر إليها كما يعتذر لمن اعتدى عليه من الناس رضي الله عنه. وكان يقول: " " لا ينبغي لفقير أن يجعل للنمل الطائف على رزقه مانعا يحول بينه وبينه من قطران ونحوه إلا بعد أن يخرج له نصيبا معلوما من ذلك ويضعه له على باب جحره " ". وهذا العهد قد صار غالب الخلق لا يلتفت إلى العمل به حتى حملة