فعلم أن الكمل لا يضرهم كثرة الدنيا وما رد صلى الله عليه وسلم جبال الذهب حين عرضها الله عليه إلا تشريعا لأمته خوفا عليهم أن لا يبلغوا مقام العارفين فيها فيهلكوا فكان رده لذلك من باب الاحتياط لأمته خوفا أن يقتدوا به ظاهرا في الأخذ ولا يقدروا يتبعونه في الإنفاق، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ما يسرني أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثلاثة أيام وعندي منه درهم واحد إلا درهم أحبسه لدين.
فقوله: ما يسرني أي أن يكون عندي مثل أحد ذهبا وأحبسه عن الناس، فما تبرأ إلا من حبسه لا من إنفاقه كما هو سياق الحديث.
فاعمل يا أخي على خروج حب الدنيا من قلبك بالكلية حتى تصير تنقبض لدخولها عليك، ثم اعمل على محبتها للإنفاق في سبيل الله حتى لا تصير تقنع بجميع ما في الدنيا أن لو دخل في يديك ثم أنفقته لأن غايتك أنك أنفقت دون جناح الناموسة، وأنا أعطيك ميزانا في حق الأمة لا في حق الأنبياء تميز به بين المحمود والمذموم، وهو أن الله تعالى إذا مدح عبدا من عبيده فإنما ذلك لفتور همة العبد عن امتثال أمر سيده مجانا، ولو أنه علم من قلبه عدم العلة من حيث الثواب وغيره لما مدحه بل كان يأمره فقط أن يفعل ذلك الشئ على قاعدة العبيد مع ساداتهم.
فابحث على ما قلته من طلب ثواب أو غيره تعثر عليه وتأمل لولا أنه تعالى مدح المؤثرين على أنفسهم لما آثروا على أنفسهم أحدا، لأن كل إنسان يقدم أغراض نفسه على غرض غيره من أصل الجبلة، فإذا خرجوا عن شح الطبيعة أطلعهم على ظلمهم لأنفسهم الذي نهاهم عنه وأمرهم بالبداءة بها على قاعدة حديث: الأقربون أولى بالمعروف ولا أقرب إلى الإنسان من نفسه وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم:
أبدأ بنفسك ثم بمن تعول، ليخرجه عن الظلم لنفسه فافهم، فلا تجد قط آيتين أو حديثين صحيحين غير منسوخ أحدهما وهما متناقضان أبدا، وإنما هما محمولان على حالين، ولا يعرف ذلك إلا من سلك الطريق، وأما من لم يسلك فمن لازمه القول بالتناقض ويصير يتمحل الأجوبة من غير ذوق فتارة يخطئ وتارة يصيب فتأمل جميع ما قررناه تعرف أن الدنيا ما ذمت إلا في حق من لم يكتسب بها خيرا.