صاحبها فيها ولم يترق إلى ما فوقها، فإذا أخذ بالحظ الوافر والنصيب المتكاثر انقلب أحكامه وتكاليفه، كما انشرح صدره الذي كان ضيقا بنور معرفة الله وأوليائه، والعلم بحقائق الأشياء كما هي، فيرى حينئذ أن ما كان عليه قبل ذلك كفر وضلال لإحاطته بقصور المقام ونقصانه بالنسبة إلى ما هو عليه من المرتبة والكمال، كما أنه وهو في تلك الحالة لو كشف له ما لم يصل إليه يراه كفرا، لعجزه عن دركه ومخالفته لما بنى عليه أمره، ولذا نهى في الاخبار السابقة عن أن يقول صاحب الواحد لصاحب الاثنين: لست على شئ وهكذا، وكذا عن إسقاط من هو دونه، ومن هنا كانوا يمسكون عن أشياء كان علمها مختصة بذوي الهمم العالية والقلوب الصافية لو سئل عنها من انهمك في الجهل والغرور، وذلك واضح بعد التتبع التام في تراجم الرواة وأصحاب الأئمة الهداة.
... ويعجبني كلام الحافظ البرسي في المشارق حيث قال بعد كلام له في تفسير بعض الآيات: (ومن الناس من يعبد الله على حرف): أي إيمانه غير متمكن في القلب، لان الحرف هو الطرف وذاك بغير برهان ولا يقين، فإن أصابه خير يغني إن سمع ما يلائم عقله الضعيف اطمأن به وركن إليه، وإن أصابه فتنة، وهو سماع ما لم يحط به خبرا، فهناك لا يوسعك عذرا بل يبيح منك محرما ويتهمك كفرا، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: (لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله)، وفي رواية (لكفره)، لان صدر أبي ذر ليس بوعاء لما في صدر سلمان من أسرار الايمان وحقائق ولي الرحمن، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله: (أعرفكم بالله سلمان).
ثم قال: وذلك لان مراتب الايمان عشرة، فصاحب الأولى لا يطلع على الثانية، وكذا كل مقام منها لا ينال ما فوقه، ولا يزدري من تحته لان من فوقه أعلى منه، وغاية الغايات منها معرفة علي عليه السلام بالاجماع، وإنما قال: (لقتله)، لان أبا ذر كان ناقلا للأثر الظاهر وسلمان كان عارفا بالسر الباطن، ووعاء الظاهر لا يطيق حمل الباطن، (قد علم كل أناس مشربهم). ويؤيده ما في كنز الكراجكي: (إن سلمان قال مخاطبا لأمير المؤمنين عليه السلام: بأبي أنت يا قتيل كوفان، والله لولا أن يقول الناس:
واشوقاه، رحم الله قاتل سلمان لقلت فيك مقالا تشمئز منه النفوس)، الخبر.
فظهر أن أبا ذر لو اطلع على ما في قلب سلمان لقتله لزعمه أن تلك المرتبة من المعرفة كفر وارتداد، وكذا بالعكس صاعدا ونازلا) (انتهى كلام المحدث النوري) (1).
ويحسن أن نختم هذه الطائفة من الاخبار بما ذكره الشيخ الطوسي في تفضيل الامامين الحسن والحسين عليهما السلام على غيرهما من الصحابة في ذيل تفسير آية المباهلة، قال (قدس سره): (وقالوا أيضا - أعني أصحابنا - إنهما كانا أفضل الصحابة بعد أبيهما وجدهما لان كثرة الثواب ليس بموقوف على كثرة الافعال، فصغر سنهما لا يمنع من