تحت قنطرة الخليج الحاكمي بمصر المحروسة أيام الصيف فسلمت علي فرد السلام ثم قال لي: ما اسمك؟ قلت له عبد الوهاب فقال: لي سنين عديدة ومقصودي لو رأيتك اجلس فجلست عنده فصافحني وقبض على يدي فكدت أن أصيح من عصرها، فقال لي ما تقول في هذه القوة؟ فقلت قوة شديدة، فقال هذه من لقيمات الحلال التي أكلناها في حال الصبا، فلولا تلك الخميرة لكان جسمنا لليوم كالنخالة من حيث المكاسب وعدم تورع الناس، ثم قال لي يا ولدي عمري الآن مائة وثلاثين وأربعون سنة، والله قد تغيرت الناس ونقصت أديانهم وأماناتهم في هذه الثلاث سنين الأخيرة أكثر مما نقصت أديانهم في المائة وأربعين سنة، قد صار الآن أخوك وصاحبك كأنه ما هو أخوك وصاحبك كأنه ما هو صاحبك بل ابنك كأنه ما هو ولدك ولا أنت أبوه وانحلت القلوب عن بعضها بعضا، وتراكمت البلايا ونزلت على الخلائق مع قلة الصبر حتى كثر سخطهم على مقدورات ربهم، ونقصت بذلك أديانهم وصار الموت اليوم تحفة لكل مؤمن كما ورد فلا يطالب المعيشة في هذا الزمان إلا من حجب عن نقصه، ثم قال: يا ولدي وأنا أوضح لك ذلك في حق صالحي هذا الزمان فضلا عن طالحيه، فقلت له: نعم، فقال: أصلح الصالحين هو أن يقوم من الليل فيتوضأ ويصلي ما كتب له إلى الفجر ثم يصلي الصبح ويشتغل بورده كذلك إلى الظهر ومن الظهر إلى العصر ومن العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء ومن العشاء إلى أن ينام. فلو فرضنا سلامته من جميع المعاصي الظاهرة فهل يقدر على سلامته من سوء الظن بأحد من أقرانه أو حساده أو رؤية نفسه عليه في ساعة من ساعات طول عمره؟ فقلت له هذا بعيد، فقال لو وضعت عبادة الشخص طول عمره في كفة وسوء الظن بمسلم في كفة لرجح سوء الظن، فإذا كانت عبادة الصالحين لا تفي بجزاء ذنب واحد فكيف بمن عليه ما لا يحصي من حقوق الخلق، فقبلت يده وانصرفت رضي الله تعالى عنه.
فسلم يا أخي أمرك إلى الله واسأل الله تعالى الصبر على مرارة هذا الزمان فإن البلاء كالسحاب السائر وأنت كالماشي تحته أو كالسحاب السائر وأنت واقف فلا بد من فراق أحدكما لصاحبه.
وقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول: إنما خاف الأكابر من البلاء لما فيه من السخط لا لذاته ثم يقول: والله ما أدرى ماذا يقع مني لو ابتليت؟ لعلي أكفر ولا أشعر.