وما لا يتوصل إلى فعل المأمور إلا به فهو من جملة المأمور واجبا لواجب ومندوبا لمندوب.
فعلم أن من عاشر الراغبين في الدنيا كالتجار والذين يسعون على الوظائف والأنظار ليلا ونهارا وطلب أن يكون الموت على باله فقد رام المحال.
ورأي سيدي علي الخواص تاجرا يبني له دارا ويغرس له فيها جنينة وقد طعن في السن فقال لفقير كان بجواره ارحل يا أخي وإلا فتنك جارك بعمارته وأنساك الموت والآخرة فرحل الفقير.
وسمعته مرة أخرى يقول: من الأضداد أن من يذكر الموت يحيا قلبه ومن ينساه يموت، وذلك لأن من لازم ذكر الموت قصر الأمل والمبادرة في العمل، فمثل هذا ولو طال عمره فعمله حسن إن شاء الله تعالى وذلك أعظم ما يكون العبد عليه.
فعلم أن من أعظم نعم الله تعالى على العبد أن يقصر أمله ويطول عمره ويحسن عمله، وهناك ينشد لسان حاله للمحجوبين عنه:
لا تظنوا الموت موتا إنه * لحياة هي غايات المنى لا ترعكم فجأة الموت فما * هي إلا نقلة من ههنا وإيضاح ذلك أن كل من جاهد نفسه حتى قتلها بسيوف المجاهدات وترك لذات المنام وأكل الشهوات فإنما هو ينقل من دار إلى دار، فلا يتأثر على فوات دار الدنيا إلا ليعمل فيها خيرا لا غير. وأما تعاطيه لذاتها وشهواتها فيندم عليها غاية الندم ويفرح لمفارقتها، وأما من لم يجاهد نفسه فيما ذكرناه فهي متعشقة للدنيا مشتبكة بعلائقها كاشتباك الصوف المبلول بالشوك فيقاسي في طلوع روحه الشدائد، وإنما شدد على الأكابر طلوع روحهم مع كونهم لا التفات لهم إلى الدنيا ولا تعشق لهم بها إلا من حيث وفور شفقتهم على أصحابهم لعدم وصولهم إلى ما كانوا يطلبونه لهم من المقامات، فكان مقصود الأكابر تأخير أجلهم ليكملوا أصحابهم وليس مقصودهم البقاء في الدنيا لحظ نفوسهم فافهم، ولذلك قال بعض الأنبياء لجبريل عليه السلام: ألا تراجع ربك في التأخير؟ قال: جف القلم بما هو كائن.
ويؤيد ما قررناه قول الجنيد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: