(١) أقول: إن توقف معرفة الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها على الأبحاث الأصولية من الوضوح بمكان لا مجال للشك فيه والارتياب، فإنه بعد ما كان معظم الأحكام الشرعية نظريا تتوقف معرفته على البحث والاستدلال كما هو واضح ولم تكن دليلية أدلتها مستغنية عن الاثبات أصبح من الضروري لمن يريد التفقه في الدين ومعرفة أحكام سيد المرسلين " ص " أن يمهد الطريق لذلك بنحو يقطع بكونه طريقا بحكم الشارع تأسيسا أو إمضاء ويبحث عن كل ما يأمن بسلوكه واتباعه مسؤولية مخالفة الحكم الشرعي المعلوم له اجمالا بالالتفات إلى الشريعة الاسلامية والاعتقاد والتدين بها وأن المسائل المتكفلة بالبحث عن ذلك هي مسائل أصول الفقه، ووجه التسمية مذكور في المتن. وأن الأمور التي يلزم أن يبحث عنها الفقيه في المسائل الأصولية أربعة: " الأول " الحجج فيبحث في كل ما يحتمل فيه الحجية والدليلية كالخبر الواحد والشهرة الفتوائية والاجماع وظواهر الكتاب المجيد، ومن ذلك بحث التعادل والترجيح لأنه بحث عن الحجة في فرض التعارض " الثاني " ظواهر المواد والهيئات الافرادية والتركيبية التي تستعمل في الكتاب والسنة وغيرهما في مقام بيان الحكم بوجه كلي من دون اختصاص بمورد دون مورد كالأمر والنهي والعام والمطلق وغير ذلك مما يبحث عنه في مباحث الألفاظ مما يلزم تشخيص مدلوله وظهوره بعد الفراغ عن حجية الظهور " الثالث " الملازمات العقلية كالملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته والملازمة بين وجوب الشئ وحرمة ضده والملازمة بين حرمة العبادة أو المعاملة وفسادها والملازمة بين وجوب الشئ وعدم حرمة مقارنه وملابسه وبين حرمة الشئ وعدم وجوب مقارنه، ويعبر عن البحث في الأخير ببحث اجتماع الأمر والنهي، وكالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. ولا مناص للفقيه من البحث في هذه الملازمات لينتهى بالدليل القطعي إلى الملازمة أو عدمها وبذلك يستكشف الحكم الشرعي " الرابع " الأصول العملية وهي القواعد التي ينتهي إليها الفقيه بعد فحصه وعجزه عن الظفر بالدليل على الحكم الشرعي فيبحث عن وظيفته في هذا الفرض من الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير حسب اختلاف الموارد. وهنا يقع البحث عن الوظيفة الشرعية أولا وعن الوظيفة العقلية ثانيا على تقدير عدم الانتهاء إلى الوظيفة الشرعية. هذه هي مباحث الأصول التي تبتني عليها معرفة الأحكام الشرعية ولا يستغني الفقيه عن الاستعانة بها في استنباط الأحكام بنحو يكون معذورا وآمنا من المسؤولية في المخالفة ولا تكون فتواه مصداقا لعنوان التشريع، وما خرج عن هذه الأمور فليس البحث فيه من المسائل الأصولية نعم قد تذكر في كتب الأصول بعض المباحث الخارجة عن العناوين الأربعة استطرادا لتشريح الأذهان ولا يوجب ذلك هدم البحث الأصولي وقلعه من أساسه بما اشتمل عليه من المسائل والأحكام والأبحاث على حد تعبيره " قدس سره " وكيف كان فيندفع ما ذكره " أولا " بما تقدم. و " ثانيا " بالنقض بتحريره المسائل الأصولية في مقدمات كتابه وسيره عليها في الأبحاث الفقهية. و " ثالثا " أن القواعد الأصولية - وإن لم ترد في كلامهم " ع " بعنوانها الخاص - قد وردت متفرقة في الكتاب والسنة في ضمن الآيات والروايات التي يستدل بها في المباحث الأصولية كالآيات والروايات التي يستدل بها على حجية الخبر الواحد على تقدير تمامية الدلالة وكالأخبار العلاجية لتعارض الخبرين وأخبار الاستصحاب على تقدير جريانه في الشبهات الحكمية وأخبار للبراءة والاحتياط وكقوله " ع " " علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا " المتقدم ج ١ ص ١٣٣ فإنه شامل للقواعد الأصولية والفقهية وكالأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف للكاتب وأنه باطل وزخرف فإنها تتضمن قاعدتين أصوليتين: إحداهما عدم حجية الخبر المخالف للكتاب. الثانية - حجية ظواهر الكتاب كما يدل عليه قوله " ع " في رواية عبد الأعلى المتقدمة ج ١ ص ١٥١ " يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله ". و " رابعا " أن علماء العامة - كما هو واضح - لم يرجعوا إلى الأئمة " ع " في شئ من الأحكام الشرعية ولم يعترفوا لهم بالمرجعية فيها واستقلوا في فهم الكتاب والسنة والتزموا بحجية القياس والاستحسان وعملوا بالمصالح المرسلة، إلى غير ذلك من الاستنباطات الظنية المتبعة عندهم، ولم يعملوا بمقتضى حديث الثقلين الذي أناط الأمن من الضلال بالتمسك بالكتاب والعترة وجعل العترة عدل الكتاب في المرجعية في أمر الدين، وقد وردت عنهم " ع " الأخبار الكثيرة في ذم هذه الطريقة والنهي عن الاستقلال في الفتوى وأنهم هم المرجع في الأحكام الشرعية مع الكتاب، فهذا النحو من الأصول المبتنى على الاستقلال في الفتوى والاستغناء عن الأئمة " ع " وعدم الأخذ منهم " ع " قد منعوا عنه وأسقطوه عن درجة الاعتبار بالكلية، وأما علم الأصول المتبع عند فقهاء الإمامية فمرجعه في الحجج والتعارض بينها وفي الأصول العملية الشرعية هو الكتاب والأخبار الواردة عن المعصومين " صلوات الله عليهم أجمعين " ولا يتخطى فيه قيد شعرة عن أقوالهم تصريحا أو إمضاء، ومرجعه في الملازمات والأصول العقلية حكم العقل القطعي من حيث كشفه عن الحكم الشرعي أو من حيث المنجزية والمعذرية. ومن الواضح عدم توجه الاعتراض على هذا النحو أصلا لاختلافه تمام من حيث المدرك والدليل عن علم الأصول المتبع عند العامة وتقيده بالمتابعة لأقوال العترة " ع " والاستناد إلى حديث الثقلين وتقيد ذاك بعدم المتابعة لهم، فكيف ينسب علم الأصول المدون على ضوء حديث الثقلين ونحوه والمبتنى على اتباع الحجتين إلى من لم يرجع في الأحكام إلى العترة أصلا واستقل عنها تماما. وبذلك يتضح أيضا حال الاجماع المتبع عند الإمامية وأنه لا يمت إلى اجماع العامة بصلة إذ بعد أن كان اعتباره عند الإمامية من حيث كشفه عن قول المعصوم - وإن اختلفوا في وجهه - ولم يكن له من حيث كونه اتفاقا أية قيمة عندهم كان مؤسسا على أساس التمسك بالعترة وسائرا على النهج الذي سنه حديث الثقلين وغيره مما يؤدي مؤداه. ولا ينحصر التمسك بالعترة بالعمل بأخبارهم فإن تعيين النبي " ص " المرجع بعده في شرعه والتأكيد الصادر منه " ص " في هذا الشأن في حديث الثقلين وغيره إنما هو في قبال من علم " ص " أنهم يرومون عزل العترة بعده عن هذا المنصب والاستغناء عنهم والاكتفاء بكتاب الله تعالى بزعمهم كما جرى ذلك على لسان بعضهم عندما طلب النبي " ص " ما يكتب به كتابا يضمن سلامة الأمة بعده من الضلال فحال بينه وبين ذلك وقال " يكفينا كتاب الله " ونسب إليه " ص " ما أوجب عدم الأثر في ما يكتبه بل اخلاله بمقام النبوة كما أشار إليه بقوله " ص " " أبعد الذي قلتم " راجع مفتاح كنوز السنة ص ٤٤٥ فالمخالف لمدلول الحديث هم الذين لم يعترفوا للعترة بمقامها الشامخ ولم يرجعوا إليهم في أمر الدين واكتفوا بالكتاب بزعمهم وأما من يرى أن العترة عدل الكتاب ويرجع في الدين إليهما معا ولا يرجع إلى الكتاب إلا بعد الفحص عن ما ورد من العترة في بيانه ويأخذ أقوالهم " ع " مما ورد من الأخبار عنهم ويستكشفها أيضا من اتفاق أصحابهم وتابعيهم ولا يتخطاها أصلا فهو ليس مخالفا لحديث الثقلين قطعا فكيف تنسب إلى مثل هذا الشخص في استكشافه قول العترة من اتفاق أصحابهم وتابعيهم المتابعة لمن خالف النبي " ص " في شأن العترة ولم يرجع إليهم في أمر الدين أصلا، وقد اعترف هو " قدس سره " بحجيته وكشفه عن قول المعصوم في موردين، راجع ج 1 ص 36. نعم استند الفقهاء في موارد كثيرة إلى الاجماع وليس فيها اتفاق أوليس الاتفاق فيها كاشفا عن قول المعصوم بنظر الآخرين كما أنه قد يناقش بعض في كاشفية الاتفاق كلية، ولا يصحح شئ من ذلك هذه النسبة إليهم وإنما تتوجه عليهم المناقشة بعدم تحقق الكاشف فقط. وقد وجه بعض الفقهاء هذه الدعاوى بما ذكره " قدس سره " ج 1 ص 39 و 40. بما ذكرناه يتضح جليا أن ما ذكره " قدس سره " في شأن علم الأصول عموما والاجماع خصوصا لا يمكن المساعدة عليه بوجه من الوجوه. ولعله " قدس سره " كتب ذلك قبل أن يكتب المقدمة الثانية عشرة من مقدمات الكتاب التي عقدها لبيان الفرق بين المجتهد والأخباري فإنها إذا كانت متأخرة عن ما ذكره في المقام يمكن أن تكون رجوعا عنه وبمراجعتها يظهر ذلك جليا.