واعلم يا أخي أن حكمة النهي عن المماراة هو للاستهانة به، فيجلس الفقيهان يتكلمان بالعلم ولا يقصدان العمل وقلوبهم غافلة عن العمل بالكلية ويشكك كل واحد منهما الآخر فيما يفهمه ويدخل عليه الشبهة ولا يعلمه بالجواب، وإلا فلو شككه ثم أجابه وعلمه الجواب لما نهى عنه بل هو مطلوب لأن فيه امتحانا للطالب ليختبر به علمه وجهله وكثيرا ما يكون طالب العلم جازما بحكم فهمه من الآية أو الحديث فيجلس مع بعض المجادلين فيدخل عليه التشكيك ثم يلتهي عنه بأمر فيصير ذلك الطالب مترددا فيما كان جازما به وليس ذلك من شأن أهل الإيمان الصادق، وهذا المعنى الذي فهمته من حكمة النهي عن المماراة اقتبسته من حديث مسلم وغيره في شأن رؤية الباري جل وعلا في القيامة:
* (هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب) * الحديث.
ففسر الشارحون هناك قوله تمارون أي تشكون فكذلك يكون المعنى هنا ومن ظفر بنقل في ذلك فليلحقه بهذا الموضع من هذا الكتاب. والله أعلم.
روى الترمذي وغيره مرفوعا: " " من تعلم العلم ليجادل به العلماء أو ليماري به السفهاء فليتبوأ مقعده من النار " ".
وروى أبو داود والترمذي وغيرهما مرفوعا:
" " من أتاه الله علما فبخل به عن عباد الله وأخذ عليه طمعا وشري به ثمنا وكذا وكذا حتى يفرغ الحساب " ". والله تعالى أعلم.
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن لا نتهور في رواية الحديث بل نتثبت في كل حديث نرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرويه عنه إلا إن كان لنا به رواية صحيحة.
وكان سيدي علي الخواص رحمه الله تعالى يقول: لا ينبغي لفقيه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا إلا إن كان له به علامة يعرف بها، أن ذلك من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من طريق النقل وإما من طريق سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الحديث. وقوله هو من كلامي يقظة ومشافهة، هذا كله فيما كان ضعيفا من طريق النقل، أما ما صح من طريق المحدثين واستحسن فلا يحتاج إلى سؤاله صلى الله عليه وسلم فيه.