وفي هذا المضمار أجاب السيد محسن الأمين في كتابه أعيان الشيعة ضمن كلام طويل عن بعض الاعتراضات الموجهة لكتاب نهج البلاغة التي تشكك في مدى صحة نسبته إلى الامام علي عليه السلام، وكان مما ذكره في الجواب:
(نهج البلاغة بعد كلام النبي صلى الله عليه وآله فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق لا يرتاب فيه إلا من غطى الهوى على بصيرته. ليس نهج البلاغة مرجعا للاحكام الشرعية حتى نبحث عن أسانيده ونوصله إلى علي عليه السلام، إنما هو منتخب من كلامه في المواعظ والنصائح وأنواع ما يعتمده الخطباء من مقاصدهم. ولم يكن غرض جامعه إلا جمع قسم من الكلام السابق في ميدان الفصاحة والبلاغة على حد ما يجمع غيره من كلام الفصحاء والبلغاء الجاهليين والاسلاميين من الصحابة وغيرهم بسند وبغير سند ولم نركم تعترضون على أحد في نقله لخطبة أو كلام بدون سند وهو في الكتب يفوق الحد إلا على نهج البلاغة، ليس هذا إلا لشيء في النفس مع ان جل ما فيه مروي بالأسانيد في الكتب المشهورة المتداولة... إن نهج البلاغة مع صحة أسانيده في الكتب وجلالة قدر جامعه وعدالته ووثاقته لا يحتاج إلى شاهد على صحة نسبته إلى إمام الفصاحة والبلاغة بل له منه عليه شواهد...، قلنا إن نهج البلاغة لا يحتاج إلى شاهد بل هو شاهد بنفسه لنفسه كما لا تحتاج الشمس إلى شاهد إنها الشمس) (1).
ولدفع نفس هذه الشبهات قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة:
(وقد شغف الناس في المواعظ بكلام كاتب محدث يعرف بابن أبي الشحناء العسقلاني، وأنا أورد هاهنا خطبة من مواعظه هي أحسن ما وجدته له ليعلم الفرق بين الكلام الأصيل والمولد:
(أيها الناس، فكلوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة وخففوا ظهوركم من الآصار المستحقبة، ولا تسيموا أطماعكم في رياض الأماني المتشعبة، ولا تميلوا صغواكم إلى زبارج الدنيا المحببة، فتظل أجسامكم في هشائمها عاملة نصبة! أما علمتم أن طباعها على الغدر مركبة، وأنها لأعمار أهلها منتهبة، ولما ساءهم منتظرة مرتقبة، في هبتها راجعة متعقبة! فانضوا رحمكم الله ركائب الاعتبار مشرقة ومغربة، وأجروا خيول التفكر مصعدة ومصوبة، هل تجدون إلا قصورا على عروشها خربة، وديارا معطشة من أهلها مجدبة! أين الأمم السالفة المتشعبة، والجبابرة الماضية المتغلبة، والملوك المعظمة المرجبة، أولو الحفدة والحجبة والزخارف المعجبة، والجيوش الحرارة اللجبة والخيام الفضفاضة المطنبة، والجياد الأعوجية المجنبة، والمصاعب الشدقمية المصحبة، واللدان المثقفة المدربة، والماذية الحصينة المنتخبة، طرقت والله خيامهم غير منتهبة، وأزارتهم من دون الأسقام سيوفا معطبة، وسيرت إليهم الأيام من نوبها كتائب مكتبة، فأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية مختضبة، وغدت أصوات النادبات عليهم مجلبة، وأكلت