كتمان فضله وجحد حقه، وكون الدنيا في يد خصومه وإنحرافها عن أوليائه، وما اتفق لأضداده من سلطان الدنيا وحمل الجمهور على إطفاء نوره ودحض أمره وخرق الله العادة بنشر فضايله وظهور مناقبه، وبتسخير الكل للاعتراف بذلك والاقرار بصحته، واندحاض ما احتال به أعداؤه في كتمان مناقبه وجحد حقوقه حتى تمت الحجة له وظهر البرهان بحقه.
ولما كانت العادة جارية بخلاف ما ذكرناه فيمن اتفق له من أسباب خمول أمره ما اتفق لأمير المؤمنين عليه السلام فانخرقت العادة فيه، دل ذلك على بينونته من الكافة بباهر الآية على ما وصفناه.
وقد شاع الخبر واستفاض عن الشعبي أنه كان يقول: لقد كنت أسمع خطباء بني أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على منابرهم وكأنما يشال بضبعه إلى السماء، وكنت أسمعهم يمدحون أسلافهم على منابرهم وكأنهم يكشفون عن جيفة.
وقال الوليد بن عبد الملك لبنيه يوما: يا بني عليكم بالدين فإني لم أر الدين بنى شيئا فهدمته الدنيا، ورأيت الدنيا قد بنيت بنيانا فهدمه الدين، ما زلت أسمع أصحابنا وأهلنا يسبون علي بن أبي طالب عليه السلام ويدفنون فضايله ويحملون الناس على شنآنه فلا يزيده ذلك من القلوب إلا قربا، ويجتهدون في تقريبهم من نفوس الخلق فلا يزيدهم ذلك من القلوب إلا بعدا.
وفيما انتهى إليه الامر من فضايل أمير المؤمنين عليه السلام والحيلولة بين العلماء ونشرها ما لا شبهة فيه على عاقل حتى كان الرجل إذا أراد أن يروي عن أمير المؤمنين عليه السلام رواية لم يستطع أن يضيفها إليه بذكر اسمه ونسبه، وتدعوه الضرورة آلى أن يقول: حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، أو يقول: حدثني رجل من قريش، ومنهم من يقول: حدثني أبو زينب. وروى عكرمة عن عايشة في حديثها له بمرض رسول الله صلى الله عليه وآله ووفاته، فقالت في جملة ذلك فخرج رسول الله متوكيا على رجلين من أهل بيته أحدهما الفضل بن العباس، فلما حكي عنها ذلك لعبد الله بن العباس قال له: أتعرف الرجل الاخر؟ قال: لا، لم تسمه لي، قال: ذاك علي بن أبي طالب عليه السلام، وما كانت امنا تذكره بخير وهي تستطيع.
وكانت الولاة الجور تضرب بالسياط من ذكره بخير بل تضرب الرقاب على ذلك وتعرض للناس بالبراءة منه، والعادة جارية فيمن اتفق له ذلك ألا يذكر على وجه بخير فضلا عن أن تذكر له فضايل أو تروى له مناقب أو تثبت له حجة بحق، وإذا كان ظهور فضايله وانتشار مناقبه على ما قدمنا ذكره من شياع ذلك في الخاصة والعامة وتسخير العدو والولي لنقله ثبت خرق العادة فيه، وبأن وجه البرهان في معناه بالآية الباهرة على ما قدمناه) (1).