النيران قد اطمأنوا بجنبات الوادي، فتوغل أمير المؤمنين عليه السلام بطن الوادي وهو يتلو القرآن ويؤمي بسيفه يمينا وشمالا فما لبث الاشخاص حتى صارت كالدخان الأسود، وكبر أمير المؤمنين عليه السلام ثم صعد من حيط انهبط فقام مع القوم الذين اتبعوه حتى أسفر الموضع عما اعتراه، فقال له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله: ما لقيت يا أبا الحسن فلقد كدنا نهلك خوفا وأشفقنا عليك أكثر مما لحقنا، فقال عليه السلام لهم: إنه لما ترائي لي العدو جهرت فيهم بأسماء الله تعالى فتضاءلوا، وعلمت ما حل بهم من الجزع فتوغلت الوادي غير خايف منهم، ولو بقوا على هيئاتهم لاتيت على آخرهم، وقد كفى الله كيدهم وكفى المسلمين شرهم وستسبقني بقيتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يؤمنون به، وانصرف أمير المؤمنين عليه السلام بمن معه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره الخبر فسرى عنه ودعا له بخير، وقال له: كيف قد سبقك يا علي إلي من أخافه الله بك فأسلم وقبلت إسلامه، ثم ارتحل بجماعة المسلمين حتى قطعوا الوادي آمنين غير خائفين.
وهذا الحديث قد روته العامة كما روته الخاصة ولم يتناكروا شيئا منه.
والمعتزلة لميلها إلى مذهب البراهمة تدفعه ولبعدها من معرفة الاخبار تنكره، وهي سالكة في ذلك طريق الزنادقة فيما طعنت به في القرآن وما تضمنه من أخبار الجن وإيمانهم بالله ورسوله وما قص الله من نبأهم في القرآن في سورة الجن، وقولهم (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به) إلى آخر ما تضمنه الخبر عنهم في هذه السورة، وإذا بطل اعتراض الزنادقة في ذلك بتجويز العقول وجود الجن وإمكان تكليفهم وثبوت ذلك مع إعجاز القرآن والأعجوبة الباهرة فيه كان مثل ذلك ظهور بطلان طعون المعتزلة في الخبر الذي رويناه لعدم استحالة مضمونه في العقول، وفي مجيئه من طريقين مختلفين وبرواية فريقين في دلالته متباينين برهان صحته، وليس في إنكار من عدل عن الانصاف في النظر من المعتزلة والمجبرة قدح فيما ذكرناه من وجوب العمل عليه، كما انه ليس في جحد الملاحدة وأصناف الزنادقة واليهود والنصارى والمجوس والصابئين ما جاء صحته من الاخبار بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله كانشقاق القمر وحنين الجذع وتسبيح الحصى في كفيه وشكوى البعير وكلام الذراع ومجئ الشجرة وخروج الماء من بين أصابعه في الميضاة وإطعام الخلق الكثير من الطعام القليل قدح في صحتها وصدق رواتها وثبوت الحجة بها بل الشبهة لهم في دفع ذلك وإن ضعفت أقوى من شبهة منكري معجزات أمير المؤمنين عليه السلام وبراهينه لما لا خفاء على أهل الاعتبار به ما لا حاجة بنا إلى شرح وجوهه في هذا المكان...) إلخ.
إلى أن يقول الشيخ المفيد (قدس سره):
(ولا أزال أجد الجاهل من الناصبة والمعاند يظهر التعجب من الخبر بملاقاة أمير المؤمنين عليه السلام الجن وكفه شرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه، ويتضاحك لذلك وينسب الرواية إلى الخرافات الباطلة، ويضع مثل ذلك في الاخبار الواردة بسوى ذلك من