والاختلاف بينهم، بل قد يعود إلى الجهل بالأمور الغيبية وإلى قصور المعرفة، ومن ذلك ما أخبر به الله سبحانه وتعالى ملائكته من عزمه على جعل الخليفة في الأرض، فقد قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (1)، ونحن وإن لم نقل بأن كلام الملائكة كان على وجه الاعتراض بل كان على وجه الاستخبار وطلب معرفة الحقيقة كما هو الحق فإن ذلك لا يلغي إمكان حصول الاختلاف فيما يكون منشؤه الجهل، وفي قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) إشارة إلى ذلك. ولا يوجد في الحديث أي دلالة على أن الاختلاف والشجار بين الملائكة كان بمعنى الخصومة والعداء والتقاتل أو فعل الأباطيل كما ادعاه المؤلف، ويؤيد ذلك تعبير الرواية: (إن نفرا من الملائكة تشاجروا في شئ)، أي إن الاختلاف بينهم كان على أمر معين، ولعلها كانت من المسائل الغيبية التي خفيت عنهم واختص بمعرفتها الامام المعصوم عليه السلام.
كما أن الاختلاف ليس مذموما على كل حال، فما أكثر الاختلافات التي أوصلت أصحابنا بعد النقاش والتحاور للسؤال عنها عند أهل العلم والذكر فتحل بذلك الأوهام ويصل أصحابها للحقيقة. ثم إنه لو افترضنا جدلا أن الرواية تدل على صدور المعصية من الملائكة فإنه يمكن مع ذلك توجيه الرواية بالقول أن المعصية الصادرة منهم هي من قبيل ترك الأولى، فكما صح في توجيه قوله تعالى: (فعصى آدم ربه فغوى) (2) حمل المعصية على ترك الأولى لان الأنبياء معصومون عن الذنب فكذلك نقول هنا. وبهذا التوجيه تحل الكثير من الاشكالات التي يوردها البعض على حديث فطرس الملك وما شاكله.
رابعا: أما استدلال مؤلف (مسائل عقائدية) على أن اختلاف الملائكة يمكن تصوره على ثلاثة احتمالات وكلها باطلة فإنه باطل، لان تصويره لابطال الاحتمالين الثاني والثالث مبني على أساس باطل، فإن كون أحد الملكين على خطأ لا يستلزم صدور المعصية منه، لأنه قد يكون وقوعه في الخطأ لجهله بالحق، ولا مانع من أن يجهل الملك بعض الأمور، بل أن القول بعلمه بكل شئ مما لا يقبله مؤلف الكتاب نفسه، والرواية لا تدل على أن وقوع الملكين في الخطأ كان على نحو الاختلاف المنهي عنه كالتقاتل، وليس من المجازفة القول أن ظاهر الرواية يدل على أن اختلافهم كان على نحو الحوار والنقاش. أما بطلان تصويره للاحتمال الأول فجوابه أن من الممكن أن يكونا جميعا على الحق إذا كان اختلافهم ليس على نحو الايجاب والسلب أو التناقض بل كان من قبيل المثبتات، وبمثال توضيحي بسيط: لو اختلف شخصان في أن قاتل زيد هل هو بكر أو عمرو؟ وكان واقع الامر أنهما اشتركا جميعا في قتله، وكان اختلاف الشخصين