في لحيتنا إذا شبنا ولو قبل وقته من حيث أنه نذير لنا، يخبرنا بقرب الموت وانتقالنا من هذه الدار إلى البرزخ الأخير. ولا يخلو حالنا من أن ننتقل إما إلى خير أو شر، وكلاهما يذكرنا به الشيب فنأخذ في الأهبة للانتقال والتزود وننتصل من ذنوبنا وتبعاتنا، وقد ألغز في نظير ذلك في النعش الشاطبي في أبيات فقال:
أتعرف شيئا في السماء نظيره * إذا سار صاح الناس حيث يسير فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا * وكل أمير يعتريه أسير يحض على التقوى ويكره قربه * وتنفر منه النفس وهو نذير ولم يسترد عن رغبة في زيارة * ولكن على رغم المزور يزور وأنشد الإمام الشافعي محمد بن إدريس رضي الله عنه لما طلع الشيب في رأسه لحيته:
خبت نار نفسي باشتعال مفارقي * وأظلم ليلي إذ أضاء شهابها أيا بومة قد عشعشت فوق هامتي * على رغم نفسي حين طار غرابها رأيت خراب العمر مني فزرتني * ومأواك من كل الديار خرابها أأنعم عيشا بعد ما حل عارضي * طلائع شيب ليس يغني خضابها ولذة عمر المرء قبل مشيبه * وقد فنيت نفس تولى شبابها إذا اصفر لون المرء وابيض شعره * تنغص من أيامه مستطابها فدع عنك سوآت الأمور فإنها * حرام على نفس التقي ارتكابها وأد زكاة الجاه واعلم بأنها * كمثل زكاة المال تم نصابها وأحسن إلى الأحرار تملك رقابهم * فخير تجارات الكريم اكتسابها ولا تمشين في منكب الأرض فاخرا * فعما قليل يحتويك ترابها ومن يذق الدنيا فإني طعمتها * وسيق إلينا عذبها وعذابها فلم أرها إلا غرورا وباطلا * كما لاح في ظهر الفلاة سرابها وما هي إلا جيفة مستحيلة * عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها عشت سلما من أهلها * وإن تجتذبها نازعتك كلابها فطوبى لنفس أوطنت قعر دارها * مغلقة الأبواب مرخى حجابها