نعم فلا يصلح تركه صلى الله عليه وآله وسلم للوضوء مما مست النار ناسخا لها، لان فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا ولا ينسخه، بل يكون فعله لخلاف ما أمر به أمرا خاصا بالأمة دليل الاختصاص به. وهذه مسألة مدونة في الأصول مشهورة، وقل من يتنبه لها من المصنفين في مواطن الترجيح واعتبارها أمر لا بد منه، وبه يزول الاشكال في كثير من الاحكام التي تعد من المضايق، وقد استرحنا بملاحظتها عن التعب في جمل من المسائل التي عدها الناس من المعضلات، وسيمر بك في هذا الشرح من مواطن اعتبارها ما تنتفع به إن شاء الله تعالى. وقد أسلفنا التنبيه على ذلك: فإن قلت:
هذه القاعدة توقعك في القول بوجوب الوضوء مما مست النار ومطلقا لأن الامر بالوضوء مما مست النار خاص بالأمة كما ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ: توضأوا مما مست النار وهو عند مسلم من حديث عائشة مرفوعا، وفي الباب عن أبي أيوب وأبي طلحة وأم حبيبة وزيد بن ثابت وغيرهم، فلا يكون تركه للوضوء مما مست النار ناسخا للامر بالوضوء منه، ولا معارضا لمثل ما ذكرت في لحوم الإبل. قلت: إن لم يصح منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مجرد الفعل بعد الامر لنا بالوضوء مما مست النار فالحق عدم النسخ وتحتم الوضوء علينا منه واختصاص رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم بترك الوضوء منه، وأي ضير في التمذهب بهذا المذهب وقد قال به ابن عمر وأبو طلحة وأنس بن مالك وأبو موسى وعائشة وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو غرة الهذلي وعمر بن عبد العزيز وأبو مجلز لاحق بن حميد وأبو قلابة ويحيى بن يعمر والحسن البصري والزهري، صرح بذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وقد نسبه المهدي في البحر إلى أكثر هؤلاء وزاد الحسن البصري وأبا مجلز. وكذلك النووي في شرح مسلم، قال الحازمي: وذهب بعضهم إلى أن المنسوخ هو ترك الوضوء مما مست النار، والناسخ الامر بالوضوء منه، قال: وإلى هذا ذهب الزهري وجماعة وذكر لهم متمسكا.
ويؤيد وجوب الوضوء مما مست النار أن حديث ترك الوضوء منه له علتان ذكرهما الحافظ في التلخيص، وحديث عائشة: ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء مما مست النار حتى قبض وإن قال الجوزجاني أنه باطل فهو متأيد بما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم من الوضوء لكل صلاة حتى كان ذلك ديدنا له وهجيرا، وإن خالفه مرة أو مرتين. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الوضوء المأمور به هو الوضوء الشرعي، والحقائق