وحيث أنه لم يصل الردع حقيقة قبل ورود العام، فلا محالة يقطع باتحاد المسلك، والا لكان ناقضا لغرضه، فلم يبق الا احتمال انتهاء أمد المصلحة المقتضية لامضاء السيرة بورود العام، وهو معنى ناسخية العام المتأخر، وحيث أنه بعنوان العموم، والخاص على الفرض حجة شرعا، فيدور الامر بين مخصصية السيرة وناسخية العام المتأخر، وليس الباب - حينئذ - باب الردع الكاشف عن اختلاف المسلك، فتدبره فإنه حقيق به.
ويؤيد تقديم السيرة على العمومات، ويؤكده: أن لسان النهي - عن اتباع الظن وأنه لا يغني من الحق شيئا - ليس لسان التعبد بأمر على خلاف الطريقة العقلائية بل من باب إيكال الامر إلى عقل المكلف، من حيث أن الظن بما هو ظن لا مسوغ للاعتماد عليه والركون إليه، فلا نظر إلى ما استقرت عليه سيرة العقلاء - بما هم عقلاء - على اتباعه من حيث كونه خبر الثقة.
ولذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي، للفراغ عن لزوم اتباع روايته بعد فرض وثاقته، كما أن أخبار (لا تنقض اليقين) أيضا كذلك، - كما سيأتي إن شاء الله تعالى فان تعليل الحكم بأمر تعبدي لا معنى له، بل الظاهر تعليله بما هو المرتكز في أذهان العقلاء من التمسك باليقين لوثاقته.
وهذا المعنى مغائر لما إفادة بعض أجلة العصر (1): من أن الظاهر من النهي عن العمل بغير العلم ما هو غير علم عندهم فإنه من باب أن النظر في هذه النواهي إلى الظن بما هو ظن، وإيكال الامر إلى العقل الحاكم بأن الظن - بما هو ظن - لا يغني من الحق شيئا.
فنحن ندعي خروج ما استقرت عليه سيرة العقلاء بنحو التخصص، وهو يدعي انطباق المأمور باتباعه على الظن الخبري، الذي هو حجة قاطعة للعذر