من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج ٣ - الصفحة ٩
" قال: قلت: في رجلين اختار كل واحد منهما رجلا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثنا، قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر. (1)
(1) قال استاذنا الشعراني - مد ظله العالي - في هامش الوافي: شرح هذه العبارة وما بعدها لا يخلو عن صعوبة لان القاضي في واقعة واحدة لا يكون اثنين، أما إن كان منصوبا فواضح، وأما إن كان قاضى التحكيم فيعتبر فيه تراضى المتداعيين فان اختار كل رجل قاضيا لنفسه لم يتحقق التراضي وعلي هذا فالفقيه إن كان بمنزلة القاضي المنصوب كان النافذ حكم من يختاره المدعى ويجبر المدعى عليه على الحضور عنده وقبول حكمه وليس له أن يختار قاضيا آخر، قال العلامة - قدس سره - في القواعد: يجوز تعدد القضاة في بلد واحد وإذا استقل كل منهما في جميع البلد تخير المدعى في المرافعة إلى أيهما شاء - انتهى، ولا يمكن في القضاء غير ذلك ولولاه لسهل على المدعى عليه طريق الفرار، وإن كان المراد في الحديث الاستفتاء فقط وأطلق عليه التحاكم والقضاء جاز تعدد المفتى بأن يختار كل واحد منهما فقيها يقلده ولكن لا تحصل منه فائدة القضاء ولا ينحل به الاختلاف، والغرض من القضاء قطع الخصومة.
وأيضا فان المتداعيين ان كانا مجتهدين لم يجز لهما تقليد غيرهما وان كانا مقلدين لم يتمكنا من ملاحظة الترجيحات المذكورة في الحديث، وحل الاشكال أن مفاد الرواية أمر الشيعة ارشادا بكل وسيلة ممكنة إلى حصول التراضي وقطع الخصومة من غير الترافع إلى قضاة الجور اما بأن تراضيا بحكم فقيه واحد ويقبلا قوله فيعد قوله بالنسبة إليهما قضاء ان كانا مجتهدين وفتوى ان كانا مقلدين وان لم يتراضيا بحكم فقيه واحد واختار كل واحد فقيها لم يكن قولاهما بالنسبة إليهما حكما وقضاء ولا فتوى بل نظير قوله تعالى " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " فيتوسلان بهما إلى قطع الخصومة بوجه وهو الترجيح، فإن كان المتداعيان مجتهدين واتفقا على أرجحية أحدهما قبلاه والا تراضيا بقول من يرجح بينهما فاختيار رجلين خارج عن حكم القضاء وغير مناسب له، قال العلامة - ره - في نهاية الأصول: التعادل إذا وقع للانسان في عمل نفسه تخير، أو للمفتي تخير المستفتى في العمل بأيهما شاء كما يلزمه في حق نفسه، أو للحاكم يعين لأنه نصب لقطع التنازع، وتخيير الخصمين يفتح باب المخاصمة لان كلا منهما يختار الأوفق له بخلاف المفتى - انتهى.
فمفاد الحديث أمر الشيعة بقطع الخصومة بينهم، إن كان بالتصالح والعفو فهو، وإن كان بالقضاء من فقيه بالتراضي فهو، وإن كان باختيار حكمين والترجيح في مورد، اختلافهما فهو، والغرض عدم الترافع إلى قضاة الجور.
وقوله " اختلفا فيما حكما " قال المولى رفيعا أي اختلافهما في الحكم استند إلى اختلافهما في الحديث وقوله عليه السلام " أصدقهما في الحديث " أي من يكون حديثه أصح من حديث الاخر بأن يكون ينقله من أعدل أو أكثر من العدول والثقاة وظاهر هذه العبارة الحكم بترجيح حكم الراجح في هذه الصفات الأربع جميعها، ويحتمل الترجيح بحسب الرجحان في واحدة من الأربع أيها كانت، وعلى الأول يكون حكم الرجحان بحسب بعضها دون بعض مسكوتا عنه، وعلى الثاني يكون حكم تعارض الرجحان في بعض منها على الرجحان في بعض آخر مسكوتا عنه، والاستدلال بالأولوية والرجحان بالترتيب الذكرى ضعيف والمراد أن الحكم الذي يجب قبوله من الحكمين المذكورين حكم الموصوف بما ذكر من الصفات الأربع، ويفهم منه وجوب اختياره لان يتحاكم إليه ابتداء وان ترجيح الأفضل لازم في الصور المسكوت عنها، ومن هنا ابتدأ في الوجوه المعتبرة للترجيح في القول والفتيا.