والثالث انها تدرك آلتها وليست بينها وبين آلتها آله أخرى فثبت ان النفس غنية في فعلها عن الاله والمحل وكل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحل وذلك لان كون الشئ فاعلا متقوم بكونه موجودا فلو كان الوجود متقوما بالمحل لكان الفعل متقوما أيضا به لان الايجاد فرع الوجود والفعل بعد الذات فحاجه الذات والوجود إلى شئ يستلزم حاجه الايجاد والفعل إليه من غير عكس ولهذا لا يفعل شئ من القوى الجسمانية الا بمشاركة الجسم ولأجل كون الحواس وغيرها من القوى الجسمانية الوجود لا تدرك ذاتها ولا ادراكها لذاتها ولا ادراكها لآلتها فلو كانت النفس جسمانية لتعذر عليها ذلك وقد ثبت انها ليس كذلك فثبت انها غير جرمية.
أقول هذا البرهان دال على تجرد النفس عن البدن سواءا كانت قوه عاقلة بالفعل أو كانت متخيلة إذ للخيال أيضا ان يتخيل ذاتها وآلتها ويفعل فعلها من غير مشاركه البدن ولهذا يتخيل أشياء خارجه عن هذا العالم الطبيعي مما لا يكون بينها وبينه علاقة وضعية بالقرب والبعد فعلم أن فعلها ليس باله بدنية وإن كان محتاجا إلى البدن في الابتداء كحاجة العقل إليه أيضا من جهة الاعداد وتخصيص الاستعداد.
واعترض صاحب المباحث على مقدمه هذا البرهان بوجهين الأول بان الصور والاعراض محتاجة إلى محالها وليس احتياجها (1) إلى محالها الا بمجرد ذواتها ثم لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذاتها عن تلك المحال.
الثاني ان جميع الآثار الصادرة من الأجسام مباديها قوى واعراض في تلك الأجسام وليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضائها تلك الآثار والأجسام بما هي أجسام يستحيل ان يكون لها اثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا ان المستقل في اقتضاء تلك الأحكام هي تلك الاعراض والقوى الحالة وحدها ثم لا يلزم من استقلالها وانفرادها في تلك الأحكام استغنائها عن محالها في الوجود.
أقول في الجواب اما عن الأول فان الاحتياج والامكان وما أشبههما أمور عقلية واحكام ذهنية تعرض الماهيات بحسب ملاحظة الذهن إياها من حيث هي هي والكلام في