بالوجود قد أفنوا المادة التي منها التكون فلم يبق لنا مادة يمكن ان نوجد ونتكون منها ولو بقيت لنا مادة لم يبق لنا مكان ورزق وان قلنا نبقى نحن والذين بعدنا على العدم دائما ويبقى الأولون على الوجود دائما دون اللاحقين فذلك مناف للحكمة إذ ليسوا بدوام الوجود أولى منا بل العدل يقتضى ان يكون للكل حظ من الوجود فوجب ان يموت السابق بالوجود ليكون لوجود المتأخر امكان وهذا الوجه أيضا اقناعي ضعيف لأنه لا يدل على وجوب الموت لكل أحد.
الوجه الخامس انه لو لم يكن الموت واجبا لجاز ان يبقى الظالم المتحكم في الدنيا دائما فيدوم شره وافساده ولم يطمع المظلوم في انصافه من ظالمه وذلك لا محاله مؤد إلى الفساد وهذا الوجه أيضا ضعيف لا يقتضى وجوب الموت لكل من في الدنيا ووجود الظالم لا يخلو من مصلحة وكما جاز دوام نوع الظالم وظلمه في هذا العالم كما نرى ونعلم فليجز دوام شخص أو اشخاص منه ومكافأة المظلوم يمكن بطريق آخر غير موت الظالم.
الوجه السادس انه لو لم يكن الموت والمعاد واجبين كان الأتقياء والأخيار أشقى الناس لأنهم يكونون قد تركوا اللذات في الدنيا من غير عوض وذلك مما يدعوا إلى الفسق وارتكاب اللذات والاعراض عما سواها وهو لا محاله شر وفساد وهذا الوجه أيضا كالوجهين السابقين من الأسباب الغائية للموت وليس شئ منها سبب فأعلى ولا سبب غائي بالذات وكلامنا في السبب الذاتي الذي يصلح ان يكون وسطا في البرهان وهو اما سبب فأعلى قريب كما في العلم الطبيعي واما سبب غائي أو فأعلى بعيد كما في العلم الإلهي والوجوه الثلاثة ليست من الأسباب الفاعلية الطبيعية للموت ولا من الأسباب الغائية الذاتية بل العرضية اللاحقة والعرضي اللاحق لا يصح كونه مبدءا للبرهان بل للخطابة وما يشبهها وانما قلنا تلك الأمور من توابع غاية الموت لا عينها لان غاية الموت بالحقيقة وجود النشأة الباقية ووصول النفوس إلى منازلها الذاتية ودرجاتها أو دركاتها في السعادة أو الشقاوة لا لأجل ان مادة الأرض تبقى لتكوين الباقين بموت السابقين ولا لان المظلوم ينتصف من الظالم وينتقم منه ولا لان